الوقت- مكتوبٌ على من يريد أن يعيش بكرامة وعزة وشموخ في هذا الشرق أن يقاوم بكل ما يملك دون أن يتردد لحظة واحدة فيما يفعل، فالعدو خطير ومجرم ولا يرحم والخونة لا يعدون ولا يحصون، ومع ذلك سطّر شباب شرقنا المتوسط أعظم بطولات العزة والفداء في سبيل تحرير أراضيهم والذود عنها وما زال منهم رجال يكملون الطريق.
خلف هؤلاء الرجال كانت تقف أمهاتٌ يجعلنك تنحني خجلاً وتتوقف عن الكلام وفي عينيك دمعة لكثرة ما تحمّلن وصبرن، نساء بحجم أوطان قدّمن أبناءهن فداء لهذه الأرض ولا يترددن لحظة في تقديم المزيد، من بين هؤلاء السيدات تبرز قصة السيّدة لطيفة محمد ناجي أبو حميد (72 عاماً) والملقبة بـ"خنساء فلسطين".
عانت أم ناصر أبو حميد مثل بقية النساء المضحيات بكل شيء من أجل أن يبقى الوطن، فأصبحت رمزاً وعنواناً للتضحية والفداء بعد أن قارع أبناؤها جميعاً الاحتلال الإسرائيلي في مدينتهم، ليسقط من بينهم شهيد "عبد المنعم أبو حميد" ويذهب أربعة منهم إلى سجون الاحتلال ويُدمّر بيتها مرتين، وتضرب عن الطعام وما زالت تقاوم.
سيدة بحجم وطن
مرّ شهر رمضان المبارك وعيد الفطر هذا العام دون أن يسمح لها جنود الاحتلال بلقاء أبنائها القابعين في سجون الاحتلال دون أسباب واضحة، أبناؤها الذين تمسح صورتهم كل عيد وتقبلها علّها تخفف حرقة قلبها على فراقهم، ومع ذلك تجدها صامدة شامخة كـ"سنديان فلسطين" ولا تزال هذه السيدة تشجع أبناءها على مقارعة العدو الصهيوني في كل مكان، وتبرز لك كمّاً هائلاً من القوة والشجاعة التي تجعلها تفتخر بأبنائها جميعاً وبجميع الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال على جميع الأراضي الفلسطينية، في العام الماضي أعلنت أم ناصر إضرابها تضامناً مع أبنائها وجميع الأسرى الفلسطينيين، وأكدت حينها أنه "ليس الابن من تلده من رحمها فقط".
اليوم أم ناصر تتلقى الإخطار الرابع أو الخامس بهدم منزلها، حيث سلّمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، المواطنة الفلسطينية لطيفة محمد ناجي أبو حميد إخطاراً بهدم منزلها اليوم الأحد 2018/6/17 عقب اتهام نجلها إسلام بقتل جندي في مخيم الأمعري جنوبي رام الله خلال اقتحام قوات الجيش للمخيم في شهر رمضان الماضي.
وبكل عزة وفخر قالت أم ناصر تعقيباً على هذا الإخطار: "إن المنزل فداء الوطن، ولا يهمنا ممارسات الاحتلال، وسنبنيه من جديد، وابني ما قام به فخرٌ لكل فلسطيني وحرّ وشريف، وغداً بعون الله يفرج عنه وعن إخوته وبقية الأسرى من المقاومة الباسلة في قطاع غزة".
ووفقاً للإخطار؛ فقد أمهلت سلطات الاحتلال أم ناصر ٤٨ ساعة للاستئناف على القرار الجائر، رغم أن هذه المهلة شكلية، ولا معنى لها.
مخيم الأمعري وبطولة أم ناصر وأبنائها
بطولات هذه العائلة لا تنتهي في التصدي للعدوان ومساندة أبناء فلسطين في هذا التصدي، تقطن العائلة حالياً في مخيم الأمعري للاجئين وسط مدينة رام الله، ربّ الأسرة المرحوم محمد يوسف ناجي أبو حميد، توفي بعد صراع مع المرض والمعاناة دون أنْ يتمكّن من رؤية أبنائه الأربعة واحتضانهم للمرة الأخيرة لحججٍ وأسبابٍ وُصفت بالأمنية.
وتشير أم ناصر في إحدى مقابلاتها إلى أن زوجها في العام 2002 أصيب بإعاقة حركية وفقد بصره إثر تفجير الاحتلال لمنزله للمرة الثانية بسبب نشاط أبنائه في مقاومة الاحتلال، بعد أن هدمه للمرة الأولى في العام 1994.
أما أبناء أم ناصر فقد حُكم على 4 منهم بالسجن مدى الحياة، وهم الأسير ناصر أبو حميد (7 مؤبدات و50 عاماً)، ونصر أبو حميد (5 مؤبدات)، وشريف أبو حميد (4 مؤبدات) ومحمد أبو حميد (3 مؤبدات و30 عاماً)، ومجموع أحكام أبنائها في السجون هي أكثر من 19 مؤبداً.
ناصر الابن الأكبر في العائلة هو ممثل الأسرى في سجن عسقلان، أما أخوه محمد هذا الرجل المقاوم فقد تبرع بكل أعضاء جسده للمحتاجين، حيث نقل محامي هيئة الأسرى كريم عجوة رسالة الأسير محمد يوسف ناجي أبو حميد المحكوم بالسجن المؤبد ويقبع في سجن عسقلان، والموجهة إلى أبناء الشعب الفلسطينيّ، يُعلن فيها تبرعه بكل أعضاء جسده بعد وفاته إلى كلّ مريضٍ يحتاج إليها.
أما أخوهم الشهيد عبد المنعم، فقد قتل أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية الذي يدعى "نوعم كوهين" بعد إطلاق النار عليه في بلدة بيتونيا قرب رام الله، في عملية نفذها عناصر من كتاب القسام كان يتقدّمهم ابنها عبد المنعم بتنسيق مع عناصر المجموعة، بعد العملية أصبح عبد المنعم المطلوب الأول لمخابرات الاحتلال بعد أن أصبح يلقب "بصائد الشاباك"، لتبدأ رحلة من المطاردة لعدة أشهر، وكانت النهاية حين تمكّن الاحتلال من رصده بعد عودته من المسجد الأقصى وملاحقته من قبل القوات الخاصة وتمت تصفيته في بلدة الرام بتاريخ 31/5/1994 بعد أن أطلق عليه المستعربون (150 رصاصة) مزقت جسده.
تقول أم ناصر عن أبنائها :"كانوا أطفالاً وأصبحوا أشبالاً والآن ناصر ونصر في الأربعينات من العمر، ماذا أقول عنهم بعد أن أصبحوا في هذه الأعمار، بعد أن قضوا سنيّهم التي من المفترض أن تكون الأجمل بين العائلة وفي الوطن الأخضر تحت ظلم السجن والسجان".
لا كلام يضاف على كلام السيدة أم ناصر؛ هذه المدرسة التي لا تخلو أسرة فلسطينية من سيدة تشاركها هذه الروح الثورية وهذه العزة والصمود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.