الوقت- عاد الشمال السوري إلى الواجهة العسكرية من جديد. العودة الساخنة التي بدأت من حرس الحدود الأمريكي المؤلّف من 30 ألف جندي، مرّت من حدود عفرين التي تنتظر عملية عسكري ساخنة بين الجانبين التركي والكردي، لتصل إلى كشف وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، في خطاب له من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، عن استراتيجية بلاده في سوريا.
كلام تيلرسون هو الأكثر وضوحاً في التصريحات الأمريكية حول البقاء في سوريا حيث تحدّث عن خطوات ستتخذها واشنطن من أجل "الحفاظ على وحدة سوريا، ومكافحة الإرهاب، وصد النفوذ الإيراني"، وفق زعمه. تيلرسون برّر بقاء القوات الأمريكية في سوريا بالتذكير بما حصل في العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية من هناك، قائلاً: "لن نرتكب الخطأ نفسه كما في العام 2011 عندما سمح الخروج المبكر من العراق للقاعدة أن تبقى هناك وتنتشر لتصبح تنظيم الدولة الإسلامية".
يتقاطع كلام تيلرسون مع العديد من المعلومات السابقة حول استراتيجية أمريكا في سوريا في مرحلة ما بعد داعش. ففي حين أكدت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن الولايات المتحدة تسعى إلى بقاء طويل الأمد في سوريا لضمان عدم عودة فلول تنظيم الدولة، وأيضاً لضمان استقرار المجتمعات المحلية المتضررة، أشار المتحدث الرسمي باسم "قوات سوريا الديمقراطية"، طلال سلو، في تصريح سابق إلى أنّه "لدى الأمريكيين استراتيجية لعشرات السنوات، وستكون هناك اتفاقات عسكرية واقتصادية وسياسية بين الإدارة الأمريكية وبين قيادات في شمال سوريا".
ما يؤكد أن قرار واشنطن تجاه سوريا، ومن ضمنه تشكيل التحالف الدولي، يتعدّى مسألة "داعش" هو ما صدر عن وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، الذي أكد أن قواته "لم تذهب إلى سوريا حتى تحارب وتوفر حلاً عسكرياً وحسب؛ بل إن تلك القوات لن تغادر سوريا قبل أن تتوصل المعارضة السورية والنظام إلى حل سياسي وتسوية، وإنها باقية حتى تهيئ الشروط لهذا الحل".
لم يفصح ماتيس حينها عن تفاصيل مسألة الحل السياسي والتسوية، وهل تتعلّق هذه المسألة ببقاء القوات الروسية وبقية حلفاء دمشق، بيد أن كلام تيلرسون الأخير تضمّن نقطة في غاية الأهميّة، أغفلها كافّة المسؤولون الأمريكيون تتمثّل في "المصالح الحيوية" التي تتطلّب وجود عسكري وآخر دبلوماسي في سوريا .
المصالح الحيوية هذه تُفسّر بوضوح مسألة القوّة الأمنية الأمريكية-الكردية وأبعاد انتشارها على الحدود مع تركيا والعراق، ولكن ما هي الصلة المباشرة بين الأمرين؟
تستخدم واشنطن ذريعة داعش، ولاحقاً الخشية من عودته كما حصل في العراق بعد الانسحاب، مبرّراً لاحتلال مناطق في الشمال السوري، إلا أنها في الوقت عينه تخشى من تكرار التجربة التي أجبرتها على الانسحاب، والمتمثّلة بالضربات العسكرية التي كانت تتلقاها من المقاومة العراقية وتحوّلت لاحقاً إلى حرب استنزاف.
بعبارة أدّق، ما تريده واشنطن اليوم، ليس تلافي عودة الجماعات التكفيرية، بل تلافي أي ضربات مباشرة كتلك التي حصلت في العراق وأجبرتها على الانسحاب، وهذا الأمر لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال قوات عسكرية بريّة "غير أمريكية" أُطلق عليها "قوات حرس الحدود". تدرك واشنطن أنها ستكون على موعد مع حرب استنزاف وهذا ما يفسر سعيها لإيجاد حرس حدود أو حرس للقواعد الأمريكية العشر المرشحة للارتفاع، والتي تحتضن حوالي ألفي جندي.
بالتوازي، لا يمكن مقاربة المسألة بعيداً عن الجيش السوري ودوره في الحفاظ على سوريا بحدودها الحاليّة من أي تهديد تكفيرياً كان، قسدياً (نسبة إلى قوات سوريا الديموقراطيّة "قسد") أو حتّى أمريكيا. إلا أن أولويات الجيش السوري اليوم تتمثّل في القضاء على الجماعات التكفيرية في إدلب تزامناً مع حراك سياسي للحكومة في سوتشي وجنيف. ومن هنا لا يتربّع التواجد الأمريكي على رأس الأولويات العسكرية السورية، بل السياسية، نظراً للظروف الداخلية والدولية، الأمر الذي يؤجل أي صدام عسكري بين الجيش السوري أو قوات الدفاع الوطني من جهة والجنود الأمريكيين من جهة أخرى.
القضاء على الإرهاب سيسحب الذرائع من واشنطن، وهذا ما يقع اليوم على عاتق الجيش السوري وحلفائه، لتبقى مسألة القوّة الأمنية، وتحديداً قوات سوريا الديمقراطية، عائقاً أمام انسحاب واشنطن. هذه المسألة ستتشارك فيها تركيا وسوريا عسكرياً، وإن لم يكن هناك تعاون أو تحالف عسكري بين الجانبين، في حين أن الطرف الروسي سيسعى إلى معالجة جزء منها سياسياً نظراً للعلاقات التي يمتلكها مع الأكراد. إضعاف قوات سوريا الديمقراطيّة عسكرياً أو القضاء عليها، سواءً كان الأمر بنيران تركيّة أو سوريّة، سيجعل القواعد الأمريكية عرضة للمواجهة المباشرة وحرب الاستنزاف ، وهذا ما لا يرضى به الكونغرس والداخل الأمريكي على حد سواء.
في الخلاصة، كلام تيلرسون يفسّر استراتيجية أمريكا للبقاء في سوريا لعشرات السنين، وإفشالها يكون من خلال طريقين الأول القضاء على الإرهاب، وبالتالي سحب الذريعة الإعلاميّة والثانية القضاء على حرس الحدود أو بالأحرى منع تشكيله وبالتالي تقليم أظافر واشنطن ومنعها من تنفيذ أي مشروع للتقسيم أو غيره في الميدان السوري.