الوقت- شهدت الساحة السورية في الآونة الأخيرة تصاعداً مقلقاً في وتيرة التوترات الأمنية، كان آخرها الهجوم الذي نفذته مجموعات مسلحة تابعة لسلطة الجولاني على أحياء تقطنها أغلبية علوية. هذا الحدث لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تمر به البلاد بعد انتقال السلطة إلى إدارة مؤقتة تحاول فرض سيطرتها وسط مشهد معقّد سياسياً واجتماعياً. فالخبر لا يعبّر عن حادث أمني معزول، بل يكشف عن خلل عميق في إدارة التوازنات الداخلية، وعن عجز واضح في حماية السلم الأهلي، خاصة في المناطق ذات الحساسية الطائفية.
الهجوم أثار موجة قلق واسعة، ليس فقط بين أبناء الطائفة العلوية، بل بين مختلف مكونات المجتمع السوري التي باتت تخشى من عودة مناخ الانتقام والفوضى تحت غطاء السلطة الجديدة. وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة هذه السلطة على إدارة البلاد بروح جامعة لا إقصائية.
سلطة الجولاني بين الحكم والواقع الميداني
منذ تسلمها إدارة مناطق واسعة، سعت سلطة الجولاني إلى تقديم نفسها كبديل منظم قادر على فرض الأمن والاستقرار. إلا أن الممارسات على الأرض كشفت تناقضاً واضحاً بين الخطاب المعلن والواقع الفعلي. فبدل أن تشكل هذه السلطة مظلة جامعة لكل السوريين، ظهرت بوادر انحيازات سياسية وأمنية أثارت مخاوف الأقليات، وخصوصاً العلويين.
المشكلة لا تكمن فقط في ضعف المؤسسات أو قلة الخبرة الإدارية، بل في الخلفية الفكرية والعقائدية لبعض التشكيلات المسلحة التي تشكل العمود الفقري لهذه السلطة. هذه الخلفية انعكست في تعاملها مع المناطق ذات الخصوصية المذهبية، حيث سُجّلت تجاوزات متعددة، من تضييق أمني إلى ممارسات ترهيب غير مباشرة، وصولاً إلى الهجوم الأخير الذي أعاد إلى الأذهان مشاهد مؤلمة من مراحل سابقة في الصراع السوري.
تفاصيل الهجوم ودلالاته الأمنية والسياسية
الهجوم الذي استهدف أحياء ذات غالبية علوية لم يكن حدثاً عشوائياً، بل حمل دلالات واضحة على تصاعد الاحتقان الطائفي. فقد جاء في توقيت حساس، يشهد فيه الشارع السوري حالة من القلق بسبب غياب الضمانات الحقيقية لحماية المدنيين، وازدياد نفوذ الجماعات المسلحة خارج أي إطار قانوني واضح.
هذا النوع من الهجمات يبعث برسائل خطيرة، مفادها أن بعض المناطق أصبحت مستباحة، وأن الانتماء الطائفي قد يتحول إلى سبب مباشر للاستهداف. كما يعكس ضعف القبضة الأمنية للسلطة القائمة، أو ربما تغاضيها عن تصرفات عناصر محسوبة عليها، وهو ما يضعها أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية كبرى.
الأخطر من ذلك أن مثل هذه الحوادث تفتح الباب أمام ردود فعل انتقامية، وتغذي دائرة العنف المتبادل، ما يهدد بتحويل الصراع من سياسي إلى طائفي بحت، وهو السيناريو الأخطر على مستقبل سوريا ووحدتها.
غياب الضمانات القانونية وتآكل الثقة الشعبية
يُعد غياب الضمانات القانونية الواضحة أحد أخطر العوامل التي فاقمت حالة التوتر في المناطق الخاضعة لسلطة الجولاني. فعدم وجود مؤسسات قضائية مستقلة أو آليات شفافة للمحاسبة جعل المدنيين يشعرون بأنهم مكشوفون أمام أي تجاوز. هذا الفراغ القانوني ساهم في اتساع فجوة الثقة بين السكان والسلطة القائمة، ورسّخ الإحساس بأن الحماية باتت خاضعة للانتماء لا للقانون، وهو ما يهدد أي مسعى جاد نحو الاستقرار، ويزيد مخاوف الناس من تكرار الانتهاكات دون رادع فعلي حقيقي.
الأقليات في سوريا بين الخوف والتهميش
تشعر الأقليات في سوريا، وعلى رأسها الطائفة العلوية، بقلق متزايد منذ التغيرات الأخيرة في موازين القوى. فبعد سنوات من الحرب التي أنهكت الجميع، كان الأمل معقوداً على مرحلة انتقالية تُعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة المتساوية. إلا أن الواقع جاء مغايراً، حيث تزايدت مؤشرات الإقصاء والاستهداف غير المباشر.
الهجوم الأخير عمّق هذا الشعور، ورسّخ لدى الكثيرين قناعة بأن السلطة الحالية لا تمتلك رؤية واضحة لحماية التنوع السوري. بل إن بعض السياسات المتبعة تُفسَّر على أنها محاولة لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية بالقوة، وهو ما يهدد بانفجار صراعات داخلية جديدة لا تقل خطورة عن سنوات الحرب الماضية.
وفي ظل غياب آليات مساءلة حقيقية، تبقى الأقليات في حالة انتظار دائم، بين الخوف من الاستهداف، وفقدان الثقة بأي وعود تتحدث عن العدالة أو الشراكة الوطنية.
الانعكاسات على مستقبل الاستقرار في سوريا
لا يمكن فصل هذا الهجوم عن المشهد العام في البلاد، حيث تعاني سوريا من هشاشة أمنية عميقة، وغياب مؤسسات قادرة على فرض القانون بعدالة. استمرار مثل هذه الأحداث سيؤدي حتمًا إلى تقويض أي فرصة لإعادة الاستقرار، كما سيؤثر سلباً على جهود إعادة الإعمار وعودة النازحين.
كما أن تجاهل هذه الانتهاكات أو تبريرها يفتح الباب أمام تدخلات خارجية، ويمنح أطرافاً عديدة مبررات للتدخل بحجة حماية الأقليات أو فرض الاستقرار بالقوة. وهو ما يعيد البلاد إلى دائرة الصراع الإقليمي والدولي من جديد.
إن بناء دولة مستقرة لا يمكن أن يتم عبر الإقصاء أو التغاضي عن الانتهاكات، بل عبر ترسيخ دولة قانون تحمي الجميع دون تمييز، وتضع حداً لأي تجاوزات، مهما كان الفاعل أو الجهة التي ينتمي إليها.
ضرورة مراجعة المسار قبل فوات الأوان
يمثل الهجوم على الأحياء العلوية جرس إنذار خطير للسلطة القائمة وللمجتمع السوري ككل. فاستمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات وإعادة إنتاج الصراع بأشكال أكثر خطورة. إن المرحلة الحالية تتطلب شجاعة سياسية حقيقية، تبدأ بالاعتراف بالأخطاء، ومحاسبة المسؤولين عنها، ووضع حد لأي ممارسات تمس السلم الأهلي.
سوريا اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما السير نحو دولة تحترم تنوعها وتحمي جميع أبنائها دون استثناء، أو الانزلاق مجدداً إلى دوامة العنف والفوضى. والمسؤولية في ذلك لا تقع على جهة واحدة فقط، بل على كل من يملك قراراً أو سلاحاً أو كلمة مؤثرة في هذا الوطن المنهك.
