الوقت-أثارت التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بشأن مستقبل قطاع غزة اهتمامًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، ولا سيما في ظل استمرار الجهود الدولية الرامية إلى تثبيت وقف إطلاق النار والانتقال إلى مرحلة أكثر استقرارًا بعد حرب طويلة خلفت أوضاعًا إنسانية وأمنية معقدة، فقد أكد روبيو، في تصريحات نقلتها صحيفة “رأي اليوم” ووسائل إعلام دولية أخرى، ثقته في استعداد عدد من الدول للمشاركة في جهود استقرار غزة، مشددًا في الوقت ذاته على أن تحقيق السلام الدائم يظل أمرًا مستحيلًا من وجهة النظر الأمريكية ما لم يتم خلع سلاح حركة حماس.
وجاءت تصريحات روبيو في سياق تحركات دبلوماسية مكثفة تقودها الولايات المتحدة بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية، بهدف رسم ملامح المرحلة المقبلة في قطاع غزة، وخصوصًا بعد التوصل إلى تفاهمات هشة لوقف إطلاق النار، وحسب ما نقلته وكالة رويترز وقنوات إخبارية من بينها قناة الجزيرة، فإن الإدارة الأمريكية تسعى إلى بلورة تصور متكامل يقوم على ثلاثة محاور رئيسية: تثبيت التهدئة الأمنية، إنشاء آلية دولية للمساعدة في إدارة القطاع، وتهيئة الظروف لإعادة الإعمار ومنع عودة المواجهات المسلحة.
وفي هذا الإطار، عبّر روبيو عن قناعته بأن دولًا عدة، من بينها دول حليفة لواشنطن، ستكون مستعدة للمساهمة في قوة دولية أو آلية متعددة الأطراف تعمل على دعم الاستقرار في غزة، سواء من خلال الإشراف الأمني أو الدعم اللوجستي والإنساني، إلا أن المسؤول الأمريكي ربط هذه المشاركة بشرط أساسي يتمثل في تحييد القدرات العسكرية لحركة حماس، معتبرًا أن بقاء الحركة مسلحة يعني بقاء التهديد الأمني قائمًا، وبالتالي تقويض أي مسار سياسي أو أمني مستدام.
هذا الطرح يعكس بوضوح الموقف الأمريكي التقليدي المنسجم إلى حد كبير مع الرؤية الإسرائيلية، والتي تعتبر أن أي تسوية سياسية في غزة يجب أن تبدأ بنزع سلاح الفصائل المسلحة، وعلى رأسها حماس، غير أن هذا الشرط يواجه تحديات كبيرة على أرض الواقع، في ظل رفض الحركة المتكرر لأي حديث عن التخلي عن سلاحها، واعتبارها ذلك مساسًا بـ”حق المقاومة”، وقد أكدت قيادات في حماس، في تصريحات سابقة نقلتها قناة الجزيرة، أن سلاح الحركة ليس مطروحًا للنقاش، وأن أي ترتيبات مستقبلية يجب أن تركز على إنهاء الاحتلال وتحسين الظروف المعيشية للسكان.
من جهة أخرى، تبرز المشاركة الدولية كعنصر محوري في التصور الأمريكي لمستقبل غزة، إلا أن هذه المشاركة لا تزال محفوفة بتساؤلات عديدة، فعدد من الدول أبدى حذرًا من الانخراط المباشر في ترتيبات أمنية معقدة في قطاع يعاني من هشاشة أمنية عالية، وخصوصًا في ظل غياب توافق فلسطيني داخلي واضح، وعدم وضوح طبيعة التفويض الممنوح لأي قوة دولية محتملة، كما أن التجارب السابقة لقوات دولية في مناطق نزاع أخرى تجعل بعض العواصم مترددة في تحمل أعباء سياسية وأمنية قد تمتد لسنوات.
وعلى الصعيد الإنساني، تأتي هذه النقاشات السياسية في وقت لا تزال فيه غزة تعاني من آثار الحرب، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية إلى تدهور كبير في البنية التحتية ونقص حاد في المواد الأساسية، إضافة إلى استمرار معاناة مئات الآلاف من النازحين، وترى منظمات حقوقية أن التركيز المفرط على الجوانب الأمنية، دون معالجة جذرية للأزمة الإنسانية، قد يؤدي إلى إعادة إنتاج أسباب التوتر وعدم الاستقرار.
في المقابل، ترى الإدارة الأمريكية أن أي جهد لإعادة الإعمار أو تحسين الوضع الإنساني يجب أن يكون مرتبطًا بإطار أمني وسياسي يمنع تكرار المواجهات المسلحة، وهو ما يفسر إصرارها على مسألة خلع سلاح حماس كمدخل أساسي للسلام، إلا أن منتقدي هذا الطرح يشيرون إلى أن ربط الاستقرار بشروط أمنية صارمة دون تقديم أفق سياسي واضح للفلسطينيين قد يؤدي إلى تعقيد المشهد بدلًا من حله.
وفي ختام المشهد، يمكن القول إن تصريحات روبيو تعكس محاولة أميركية لإعادة صياغة دور المجتمع الدولي في غزة، عبر الجمع بين الضغوط السياسية والأمنية من جهة، والحوافز المرتبطة بالاستقرار وإعادة الإعمار من جهة أخرى، غير أن نجاح هذا المسار يبقى مرهونًا بمدى قدرة الأطراف المعنية على التوصل إلى تسويات واقعية تأخذ في الاعتبار تعقيدات المشهد الفلسطيني الداخلي، وحساسية البعد الإنساني، وتوازنات الإقليم، وبينما تؤكد واشنطن أن السلام دون نزع سلاح حماس غير ممكن، يظل السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت هذه الرؤية قابلة للتطبيق في ظل المعطيات الحالية، أم إنها ستبقى جزءًا من سجال سياسي طويل الأمد دون نتائج ملموسة على الأرض.
