الوقت- على امتداد عقود من الاحتلال الإسرائيلي، بقيت السجون الإسرائيلية واحدة من أكثر الأماكن غموضًا وتعتيمًا، حيث تختفي القوانين خلف الجدران الإسمنتية، وتصبح الأجساد الفلسطينية هدفًا للإخضاع والإذلال. لكن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تغيّر كل شيء. توسّعت دائرة الانتهاكات لتبلغ مستوى غير مسبوق من العنف الجنسي الممنهج، وفق شهادات واعترافات ووثائق حقوقية تؤكد أن جسد الأسير الفلسطيني أصبح ميدانًا مباحًا لأبشع الجرائم.
لا تتحمل الذاكرة المعاصرة صورًا مثل الاغتصاب بالكلاب، أو الاعتداءات الجنسية الجماعية، أو التصوير العاري القسري، أو الصعق الكهربائي في الأعضاء الحساسة. لكن هذه الممارسات لم تعد مجرّد روايات فردية، بل أصبحت حقيقة موثقة تفضح وحشية كيان الاحتلال، وتكشف جانبًا مظلمًا يتجاوز—وباعتراف خبراء حقوقيين—أسوأ ما فعله النازيون، ويتخطى كل ما شهدته السجون عبر التاريخ.
وبينما تُرفع شعارات "حقوق الإنسان" في البيت الأبيض، يتجوّل الجلاد نتنياهو ومسؤولوه بحرية، بينما الضحايا الفلسطينيون يجرّون آلامهم في صمت، وبعضهم لم يخرج حيًا من غرف التحقيق.
هذه المقالة تحاول إعادة رسم صورة ممنهجة لهذه الجرائم، اعتمادًا على تقرير حديث أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إلى جانب شهادات موثّقة لأسيرات وأسرى خرجوا من جحيم التعذيب.
السجن كمؤسسة للعقاب الجنسي.. تحول خطير بعد حرب غزة
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، تحوّلت السجون ومراكز الاحتجاز العسكرية — وعلى رأسها سدي تيمان، عوفر، ركَافت، النقب، والدامون — إلى ساحات مفتوحة لممارسات لم يعرفها تاريخ الاعتقال السياسي الفلسطيني بهذا الحجم والتواتر.
لم تعد القضية مجرد ضرب أو منع زيارة أو عزل انفرادي؛ بل تحوّلت إلى عمليات منظمة تهدف إلى: كسر الكرامة الإنسانية و تفكيك الهوية النفسية للأسير، تدمير القدرة على الصمودو استخدام الجسد كسلاح للضغط والقمع والسيطرة
وهذا ما أكده تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الذي جمع على مدى أسابيع شهادات معتقلين أُفرج عنهم حديثًا، كشفوا تفاصيل صادمة تتعلق بتعذيب جنسي ممنهج، يتم بعيدًا عن الرقابة الدولية، بل وبإشراف عناصر مدربين.
شهادة الأسير (أ.أ) – اغتصاب بالكلاب داخل سدي تيمان
تُعد شهادة الأسير الفلسطيني (أ.أ)، 35 عامًا، واحدة من أكثر الإفادات قسوة في تاريخ الاعتقال الفلسطيني، ليس لأنها تحتوي على تفاصيل صادمة فحسب، بل لأنها تُظهر مستوى السادية الذي بلغته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
اعتُقل من داخل مستشفى الشفاء أثناء مداهمة الاحتلال له، ثم نُقل إلى سدي تيمان، حيث بدأ مسلسل طويل من التعذيب الجنسي.
قال الأسير:
“جرّدونا من الملابس. أخذونا إلى ممر بعيد عن الكاميرات. أطلقوا الكلاب علينا.
صعد كلب فوقي واغتصبني بإيلاج واضح، بينما كان الجنود يضربونني ويرشون غاز الفلفل على وجهي. استمر الاغتصاب حوالي 3 دقائق”.
لم يكن هذا الاعتداء حدثًا معزولًا؛ بل جزءًا من “برنامج قمعي” يمارسه جنود الاحتلال ضد مجموعات من المعتقلين في مناطق غير مراقبة.
أصيب الأسير بكسور في الأضلاع و بجروح عميقة عولجت دون تخدير و بصدمة نفسية تُرافقه حتى اليوم
هذه الشهادة وحدها كفيلة بإسقاط حكومات في دول تحترم نفسها، لكنها في السياق الإسرائيلي تُعامل كجزء من “الحرب على غزة”.
شهادة الأسيرة “ن.أ” – اغتصاب وتصوير وإذلال مستمر
الأسيرة ن.أ، 42 عامًا، أم فلسطينية اعتُقلت في نوفمبر 2024 عند حاجز شمال غزة. خلال ثلاثة أيام فقط، تعرّضت إلى: الاغتصاب أربع مرات، التعرية القسرية لساعات، الصعق الكهربائي في المناطق الحساسة، التهديد بنشر الصور العارية، التصوير القسري أثناء الاعتداء
قالت: أُجبرت على خلع ملابسي بالقوة بينما كانت يدَيّ وقدماي مقيدتين. و تعرضت لاعتداءات جنسية قاسية ومتكررة وسط الضرب والإهانات والتهديد والتصوير.
الإذلال كان تدريجيًا ومنهجيًا… تمنيت الموت”.
هذه الشهادة تؤكد أن الاعتداء الجنسي لم يعد مجرد تجاوز فردي، بل سياسة تهدف إلى إذلال المرأة الفلسطينية كرمز للصمود والهوية والعائلة.
الاغتصاب الجماعي
شهادة أسيرة أخرى، وثّقها المركز الحقوقي، تضمنت تفاصيل عن اغتصاب جماعي داخل السجون الإسرائيلية.
قالت:
“كان أسوأ من الموت.
كانوا يهاجمونني واحدًا تلو الآخر.
لم أعد أشعر بجسدي. شعرت بأنني لم أعد إنسانة.”
وجود تسجيلات مصوّرة لهذه الاعتداءات — كما أشارت تقارير حقوقية — يفتح الباب أمام جريمة مزدوجة: الاعتداء… ثم تصوير الاعتداء.
وهذا السلوك يتفق مع الأنماط التي عرفتها حروب التطهير العرقي عبر التاريخ، حيث يُستخدم الجسد كأداة إرهاب ووسيلة تحطيم اجتماعي.
شهادة الأسير “ت.ق” — اغتصاب بالعصي… جريمة خارج كل القوانين
الأسير “ت.ق”، 41 عامًا، كشف أنه تعرّض لاغتصاب باستخدام عصا خشبية، ما أدى إلى نزيف وإصابة جسدية خطيرة. بعد الاغتصاب، أُعيد تعصيبه وربطه، وأُجبر على البقاء لساعات مع معتقلين آخرين يتعرضون بدورهم للضرب والشتم.
لم يكن الهدف التحقيق أو جمع المعلومات، بل تعذيب متعمّد لكسر الروح.
الشاب “م.أ” – 18 عامًا — الاغتصاب بالزجاجة والكلاب
في شهادة أخرى لا يمكن للقلب احتمالها، روى الشاب الفلسطيني “م.أ” تفاصيل اعتقاله قرب مركز توزيع مساعدات وشملت الانتهاكات التي تعرض لها هذا الأسير، إدخال زجاجة في جسده اغتصابه مرتين وسط مجموعة، اعتداء كلب عليه وعلى الآخرين، إذلال ممنهج أمام معتقلين آخرين.
يقول بمرارة:
“حطموا نفسيتي… وكرهت الحياة. كنت أتمنى أن أكمل تعليمي. الآن أنا تائه”.
هذه ليست مجرد انتهاكات، بل مذبحة نفسية تُرتكب داخل غرف مغلقة.
منهجية التعذيب الجنسي سياسة لا حادثة
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أكد أن ما ورد من شهادات: ليست حوادث فردية، ليست نتيجة توتر ميداني، ليست تجاوزًا من جنود مفصولين عن القيادة
بل سياسة منهجية مارستها، وحدات عسكرية وعناصر تحقيق و فرق مدربة في مناطق مغلقة أمام الصليب الأحمر وهذا يعني أن المسؤولية لا تقع على الجندي فقط، بل على:
وزير الأمن ، قادة الوحدات ، رئيس الحكومة نفسه بمعنى أن نتنياهو ليس مجرد مراقب، بل شريك مباشر في نظام التعذيب.
أين العالم؟ وكيف يبقى الجلاد حرًا؟
رغم بشاعة الشهادات، ورغم انتشار تقارير حقوقية دولية تؤكد وجود تعذيب ممنهج، فإن ردود الفعل الدولية لا تزال باهتة.
ومن المفارقات أن نتنياهو ومسؤولوه يزورون البيت الأبيض الذي يدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان و الرئيس الأمريكي يتحدث عن «قيم الحرية» بينما يدعم نظامًا يرتكب الاغتصاب كسلاح حرب.
أوروبا التي تدين الاعتداءات الجنسية في كل مكان، تلتزم الصمت أمام جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
المفارقة الأخلاقية هنا ليست مجرد صمت، بل تواطؤ دولي يسمح للجلاد بالاستمرار.
هل تجاوزالكيان الاسرائيلي النازية؟
التاريخ يعرف محاكمات نورمبرغ. ويعرف جرائم الصرب ضد مسلمي البوسنة. ويعرف اغتصابات الجنود اليابانيين في الصين. لكن ما يجري في السجون الاحتلال الإسرائيلية يخضع لخصائص تجعله:
1. منظمًا أي أنه جزء من منظومة وليس سلوكًا عشوائيًا.
2. مستمراً حدث قبل الحرب، وتفاقم بعدها، ويُمارس يوميًا.
3. محميًا دوليًا بدعم أمريكي-أوروبي كامل.
لهذا يقول حقوقيون إن ما يجري “أسوأ من النازية” من حيث: التوثيق (النازيون أخفوا جرائمهم… الاحتلال يصورها بفخر)، العقاب (لم يُحاسَب مسؤول واحد)، الإعلان (بعض الجنود يتفاخرون علنًا بما يفعلون)
مسؤولية الإعلام العربي والدولي
الفضيحة الكبرى هي أن الكثير من هذه الجرائم لا يحظى بتغطية كافية. بعض وسائل الإعلام الغربية تعرف لكنها تختار الصمت. وبعضها يبرر بأنها “ادعاءات فلسطينية”، رغم وجود توثيق طبي وصور وشهادات.
على الإعلام العربي أن يعيد إنتاج هذه القصص بصوت عالٍ، لأن، هذه الجرائم تُرتكب اليوم، الآن، ضد بشر محاصرين. فالصمت مشاركة غير مباشرة في الجريمة. وإعادة سرد الحقيقة واجب أخلاقي قبل أن يكون صحافيًا.
الجسد الفلسطيني… آخر ما تبقى لمقارعة الظلم
تثبت الشهادات أن الاحتلال استخدم الجنس كسلاح، وأنه أراد تحويل الجسد الفلسطيني إلى مساحة خوف، وميدان إذلال.
لكن رغم كل ذلك، يخرج الأسرى ليقولوا الحقيقة. وهو ما لم يتوقعه الجلاد. هذا التقرير يجب ألا يُطوى في ملفات المنظمات الحقوقية، بل يجب أن يكون بداية: لتحقيق دولي شامل ولمحاسبة نتنياهو ومسؤوليه أمام المحكمة الجنائية الدولية وينبغي إعادة تعريف الاحتلال باعتباره نظامًا ممنهجًا للعنف الجنسي
وحتى ذلك اليوم، سيبقى السؤال معلقًا:
كيف يمكن للعالم أن يسمح بمرور هذه الجرائم دون أن يقف؟
وكيف يبقى الجلاد طليقًا… بينما الضحية تصرخ في الظلام؟
