الوقت – جاء العدوان الصهيوني الغاشم علی غزة في وقتٍ كان يُؤمل فيه أن تُعيد اتفاقيات وقف إطلاق النار شيئاً من السكينة إلى تلك الأرض المثخنة بالجراح، إلا أن الكيان الصهيوني كعادته أبى إلا أن يُخرق العهود وينكث المواثيق، ففي أعقاب مشاوراتٍ أمنيةٍ عقدها نتنياهو مع قادة جيشه، أصدر أوامره بشنّ هجماتٍ جويةٍ واسعة النطاق على غزة، ضارباً بعرض الحائط كل ما اتُّفق عليه من هُدنٍ وتفاهمات، ليكشف بذلك عن نوايا خبيثةٍ تُمعن في زعزعة الاستقرار واستئناف آلة الحرب المدمّرة.
وفي خضم هذا التصعيد الأعمى، ادّعى نتنياهو أن تجدد القصف جاء بسبب عدم تسليم المقاومة الفلسطينية جثث الأسرى الإسرائيليين الذين قضوا في غزة، إلا أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أكدت في المقابل تمسّكها بتعهداتها، مشيرةً إلى أن بعض الجثث لا تزال مطمورةً تحت أنقاض المباني التي سوّتها غارات الاحتلال بالأرض، وأن انتشالها يستلزم معداتٍ هندسيةٍ متخصصة، لم يتم إدخالها بسبب الحصار الجائر الذي يُطبق على القطاع ويخنق أهله.
حتى هذه اللحظة، تمكنت المقاومة من تسليم 18 جثة من أصل 28، فيما تبقى 10 جثث أخرى دفينةً تحت الركام، تنتظر معداتٍ قادرةً على انتشالها، وقد أعلنت حماس استعدادها للتعاون مع الخبراء لتحديد مواقع الجثث، غير أن الاحتلال يُماطل في إدخال المعدات اللازمة، مُتّخذاً من هذه الأزمة ذريعةً لاتهام المقاومة بالتقصير، في مسعى خبيثٍ لتبرير خروقاته المستمرة وتملّصه من التزاماته المتعلقة بفتح الممرات الإنسانية وإدخال الإمدادات الحيوية إلى غزة.
إن الحصار المفروض على غزة، والذي يُضيّق الخناق على أهلها ويمنع دخول الضروريات والمعدات اللازمة لرفع الأنقاض، يُعد العقبة الكبرى أمام استكمال تسليم الجثث، ومع ذلك، يواصل الاحتلال ممارسة سياسة الكذب والتضليل، مُحمّلاً المقاومة مسؤولية التأخير، بينما الحقيقة الساطعة تُظهر أن الكيان ذاته هو من يُمعن في انتهاك اتفاقيات الهدنة، مستغلاً الأوضاع لتبرير جرائمه وتغطية خروقاته.
وفي ساعاتٍ خلت، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية غاراتٍ عنيفةً طالت شتى مناطق القطاع، من شماله إلى جنوبه، مخلّفةً وراءها مشهداً دامياً من الدمار والدماء، فقد أفادت مصادر محلية وشهود عيان بأن القصف استهدف مبانٍ سكنية ومناطق قريبة من مستشفى الشفاء، أكبر مستشفى في شمال غزة، ما أسفر عن استشهاد 18 فلسطينياً وجرح العشرات، في جريمةٍ تُضاف إلى سجل الاحتلال الحافل بالوحشية.
نتنياهو والمراوغة السياسية
وفي غمرة القصف العشوائي، أصدرت حركة حماس بياناً رسمياً أكدت فيه تمسكها بالهدنة، متهمةً نتنياهو بالسعي لإيجاد ذرائع واهية يتنصل بها من الالتزامات التي نصّت عليها اتفاقيات وقف إطلاق النار، وأشارت إلى أن إحدى عمليات تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين التي كانت مقررةً قد تأجلت بسبب الهجمات الإسرائيلية، في دلالةٍ واضحة على أن الاحتلال نفسه هو العقبة الكبرى أمام تنفيذ بنود الهدنة.
يرى مراقبون سياسيون أن نتنياهو يخضع لضغوطٍ متزايدةٍ من جناحه اليميني المتطرف داخل حكومته، الذي لا يُخفي مساعيه لإعادة إشعال فتيل الحرب في غزة بعد أن أخفقت "إسرائيل"، على مدار عامين من القتال، في تحقيق أهدافها العسكرية، ورغم ضراوة الحرب، بقيت حركة المقاومة الفلسطينية صامدةً، محتفظةً بقبضتها على مقاليد القوة في القطاع، وأعادت بناء قدراتها العسكرية، وفقاً لتقارير إسرائيلية، بل استغلت قذائف الاحتلال المدمرة لإعادة تدويرها وتعزيز ترسانتها، لتُصبح أكثر جاهزيةً للمواجهة.
هذا الواقع يُشكّل كابوساً يؤرق الكيان الصهيوني، الذي يُدرك أن حربه الأخيرة لم تُسفر عن تحقيق أهدافه في القضاء على المقاومة، بل زادت الأخيرة قوةً وصلابةً، ومن هنا، يبدو أن نتنياهو وحكومته يسعيان إلى تقويض اتفاقيات وقف إطلاق النار، متذرعين بحججٍ واهية لاستئناف عدوانهم، في محاولةٍ يائسةٍ لإضعاف المقاومة وطمس وجودها.
خلافاتٌ في دهاليز حكومة نتنياهو
وفي سياقٍ متصل، كشفت تقارير عبرية عن انقساماتٍ حادة داخل أروقة حكومة نتنياهو بشأن مستقبل الهدنة، فقد أفادت قناة 12 الإسرائيلية بأن اجتماعاً مطولاً بين نتنياهو وأعضاء حكومته انتهى دون التوصل إلى قراراتٍ حاسمة بشأن استئناف الحرب، أو الإبقاء على اتفاقيات وقف إطلاق النار.
وأشارت مصادر مطلعة إلى أن قادة الجيش قدموا لنتنياهو خياراتٍ عسكريةٍ تتضمن شنّ عملياتٍ واسعة النطاق على القطاع، بينما أبدى نتنياهو رغبته في التنسيق مع الإدارة الأمريكية قبل اتخاذ أي خطواتٍ تصعيدية، ويُرجّح محللون أن الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، لن تُبارك أي تحركاتٍ إسرائيليةٍ تُهدد اتفاقية الهدنة، نظراً لما تُشكّله هذه الاتفاقية من أوراقٍ سياسيةٍ ثمينةٍ في يد الإدارة الأمريكية.
ومع ذلك، لا يُستبعد أن يلجأ نتنياهو إلى تنفيذ ضرباتٍ محدودة، في محاولةٍ لامتصاص غضب جناحه المتطرف، مع الحفاظ على شعرة معاوية في علاقاته مع واشنطن.
في مشهدٍ تتشابك فيه خيوط الدمار مع أوجاع المحاصرين، ويتردد فيه صدى القصف بين أنقاض المنازل وأشلاء الضحايا، تتكشف يوماً بعد يوم حقيقة المخططات الصهيونية التي لا تُبارح سياسة النار والخراب، وبينما تُواصل المقاومة صمودها الأسطوري، يبقى السؤال الجوهري: هل ستنجح "إسرائيل" في تحقيق مآربها الدنيئة، أم إن غزة، برغم القصف والحصار، ستظل عصيّةً على الانكسار؟
