الوقت- في مشهد يختصر حجم العزلة التي يواجهها الكيان الصهيوني، اعتلى بنيامين نتنياهو منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي خطاباً مطولاً أمام قاعة شبه خالية، في حدث يمكن اعتباره دليلاً دامغاً على تراجع مكانة الكيان الصهيوني دولياً وفشل دعايته.
حاول نتنياهو أن يستعرض الخرائط والشعارات ويعيد خطاباته المكررة حول "أمن إسرائيل" و"الإرهاب" و"التعاون الدولي"، لكنه لم يقدم جديداً، بل عمّق الشعور بالإحباط داخل الأوساط الصهيونية نفسها، هذا الخطاب لم يكن سوى محاولة يائسة لتلميع صورة مشوهة بسبب حربه المستمرة على غزة، تلك الحرب التي كشفت للعالم حجم التوحش الذي يمارسه الاحتلال بحق المدنيين، مقاعد الأمم المتحدة الفارغة لم تكن مجرد تفاصيل بروتوكولية، بل رسالة سياسية واضحة: العالم لم يعد يصدق الأكاذيب الصهيونية، والدموع التي ذرفها نتنياهو لم تكن سوى دموع تماسيح فقدت قدرتها على خداع الرأي العام العالمي.
عزلة دولية تتجسد في القاعة الفارغة
مشهد القاعة شبه الخالية خلال خطاب نتنياهو لم يكن حدثاً عابراً أو مجرد صدفة تنظيمية، بل جاء معبّراً عن حالة عزلة متفاقمة يعيشها الكيان الصهيوني على المستوى الدولي، انسحاب عشرات المندوبين من قاعة الأمم المتحدة كان بمثابة موقف سياسي صريح، يعكس رفضاً متنامياً لاستمرار العدوان على غزة ولسياسة الاحتلال القائمة على المجازر والتدمير.
اعتاد نتنياهو في السنوات الماضية أن يجد منابر عالمية تتيح له التلاعب بالمفردات وترويج الأكاذيب تحت غطاء "محاربة الإرهاب"، إلا أن العالم اليوم بات أكثر وعياً بزيف هذه الادعاءات، لم يعد من الممكن إخفاء الحقيقة التي تنقلها صور الأطفال تحت الركام وأصوات الاستغاثة من داخل غزة، فالعزلة التي واجهها نتنياهو في نيويورك هي حصيلة طبيعية للجرائم التي ارتكبها جيشه على مدى عامين من العدوان، وهي مؤشر على تحوّل موازين الخطاب الدولي لمصلحة القضية الفلسطينية.
خطاب بلا مضمون ولا رؤية
رغم طول خطاب نتنياهو وتنوع أدواته بين الخرائط والرموز والشعارات، إلا أنه بدا خالياً من أي مضمون سياسي حقيقي، لم يقدّم خطة لإنهاء الحرب على غزة، ولم يطرح حلولاً للأزمة الإنسانية، بل اكتفى بتكرار عبارات تقليدية حول أمن "إسرائيل" وضرورة الحوار مع واشنطن، هذا التكرار يعكس مأزقاً داخلياً تعيشه حكومة الاحتلال، التي لم تعد تملك سوى اجترار نفس الخطاب أمام جمهور دولي ملّ الأكاذيب.
خطابات نتنياهو السابقة اعتمدت على عنصر المفاجأة والإيحاء بامتلاك استراتيجيات، لكن هذه المرة سقط القناع، وبدا واضحاً أنه لا يملك سوى الهروب إلى الأمام عبر الاستعانة بدعم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أما المجتمع الدولي، فقد خرج من الخطاب بخيبة أمل مضاعفة، حيث لم يسمع أي جديد حول إنهاء المأساة في غزة أو مستقبل المنطقة، إن ما حدث لم يكن سوى محاولة متعثرة لتغطية فشل سياسي وعسكري يزداد وضوحاً يوماً بعد يوم.
دموع التماسيح وتزييف الحقائق
أحد أبرز مشاهد خطاب نتنياهو كان محاولته التلاعب بالعاطفة عبر التظاهر بالبكاء وإظهار "التأثر" على الأسرى الصهاينة، فيما دماء الفلسطينيين لا تزال تنزف يومياً تحت وطأة القصف والعدوان، هذه الدموع لم تكن سوى دموع تماسيح، كما وصفها خصومه داخل الكيان نفسه، نتنياهو أراد أن يظهر بمظهر القائد المتألم والحريص على شعبه، لكنه في الحقيقة هو من قاد "إسرائيل" إلى أسوأ أزمة سياسية وعسكرية منذ عقود.
العالم بات يدرك أن بكاء نتنياهو ليس سوى جزء من أسلوب التضليل الذي يمارسه منذ سنوات، والذي يسعى من خلاله إلى تحويل الأنظار عن حقيقة جرائمه في غزة، ما لم يدركه هو أن الرأي العام العالمي تغير، وأن الشعوب اليوم قادرة على التمييز بين الضحية والجلاد، دموع نتنياهو إذن ليست سوى أداة مسرحية مكشوفة، عجزت عن إنقاذ صورته المتداعية.
إفلاس سياسي وأزمات داخلية متصاعدة
خطاب نتنياهو لم يكن موجهاً فقط إلى الخارج، بل كان محاولة لامتصاص غضب الداخل الصهيوني الذي يواجه انقسامات غير مسبوقة، المعارضة، بقيادة يائير لابيد، لم تتردد في مهاجمته ووصفه بالمخادع والمتلاعب، الكيان الصهيوني اليوم يغرق في أزمة سياسية خانقة، حيث الانقسامات الداخلية، الاحتجاجات، وتراجع الثقة في القيادة، تتزامن مع عجز عسكري عن حسم المعركة في غزة.
الخطاب لم يقدّم رؤية للخروج من هذا المأزق، بل زاد من تأكيد أن الاحتلال عالق في دائرة مغلقة من الحرب والدمار. فبدلاً من الحديث عن حلول سياسية أو مبادرات سلام، أصر نتنياهو على خطاب القوة والمظلومية المزيفة، ما يعكس إفلاسه السياسي وانعدام قدرته على تقديم أي بدائل حقيقية، هذه الأزمة الداخلية لا تنفصل عن عزلته الدولية، فكلاهما يعبّران عن كيان فقد القدرة على التلاعب بالمشهد كما كان في الماضي.
في الختام، خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن سوى صورة مكثفة لانهيار المشروع الصهيوني على المستويين الداخلي والخارجي، القاعة الفارغة كشفت حجم العزلة، والعبارات المكررة أظهرت فقر الخطاب، والدموع المفتعلة فضحت أسلوب التضليل، وفي المقابل، بقيت غزة عنواناً للصمود، إذ أثبتت أن الاحتلال مهما حاول أن يبرر عدوانه فلن ينجح في إقناع العالم، هذه اللحظة التاريخية تشير بوضوح إلى أن الرواية الصهيونية لم تعد مقنعة، وأن نتنياهو يقود الكيان الصهيوني نحو عزلة أعمق وأزمات أكبر، لقد خسر معركة الخطاب كما خسر معركة الميدان، وما تبقى له سوى المسرحيات الهزيلة التي لم تعد تنطلي على أحد، إن ما جرى في الأمم المتحدة لم يكن مجرد خطاب فاشل، بل كان إعلاناً صريحاً عن مرحلة جديدة من تراجع الاحتلال، مرحلة يكون فيها كشف زيفه أمراً محسوماً، وصمود غزة عنواناً للحقيقة التي لا يمكن حجبها.