الوقت- منذ اندلاع العدوان الأخير على قطاع غزة، لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بل أضاف إلى ذلك عنصرًا جديدًا يكشف عن طبيعته الاستعمارية والإقصائية: التفاخر العلني بالتدمير والإبادة.
تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، ومسؤولين آخرين في حكومة الاحتلال، لم تترك مجالًا للتأويل؛ فقد أكدوا صراحة أن تدمير الأبراج السكنية والبنية التحتية في غزة جزء من أهدافهم الاستراتيجية، وأن محو المدينة وإعادة تشكيلها وفقًا لمخططات الاحتلال يُعدّ "انتصارًا" بحد ذاته.
هذه الاعترافات ليست مجرد زلات لسان، بل هي انعكاس لعقيدة سياسية–عسكرية ترى في الفلسطينيين عقبة يجب محوها من الوجود، في هذا السياق، يمكن قراءة ما يحدث في غزة باعتباره استكمالًا لحرب إبادة جماعية، وليس مجرد مواجهة عسكرية عابرة.
من الميدان إلى الإعلام… التدمير كأداة للردع
منذ اليوم الأول للعدوان، اتبعت "إسرائيل" سياسة "الأرض المحروقة"، حيث استهدفت الأبراج السكنية الضخمة التي شكّلت رمزًا حضريًا لغزة، أبراج كاملة سويت بالأرض خلال دقائق، لتتحول إلى ركام يحمل قصص آلاف العائلات التي وجدت نفسها بلا مأوى.
لكن اللافت أن الاحتلال لم يحاول حتى التبرير كما اعتاد في حروبه السابقة. على العكس، خرج المسؤولون عبر وسائل الإعلام ليؤكدوا أن القصد كان تدمير البيئة العمرانية لغزة بالكامل، باعتبارها "حاضنة للمقاومة"، وفي تصريحات كاتس نفسه، كان هناك إصرار على أن إزالة هذه البنية العمرانية تمثل رسالة ردع ليس فقط لغزة، بل للمنطقة بأكملها.
هذا الخطاب يعكس تحولًا خطيرًا: لم يعد الاحتلال يخفي استهدافه المتعمد للمدنيين، بل يضعه في صلب استراتيجيته ويستخدمه كورقة ضغط معنوي وسياسي.
البنية التحتية كهدف استراتيجي
رغم أن القانون الدولي الإنساني يحظر استهداف المنشآت المدنية، إلا أن الاحتلال تعامل مع البنية التحتية كجزء من ساحة المعركة، شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، المستشفيات والمراكز التعليمية، وحتى الجامعات والمساجد، جميعها كانت أهدافًا مقصودة.
التقارير الأممية ومنظمات حقوق الإنسان وثّقت أن التدمير لم يكن نتيجة "أضرار جانبية" كما يزعم الاحتلال، بل كان منهجيًا ومتعمدًا، في إطار سياسة تهدف إلى جعل غزة "غير قابلة للحياة"، وهو ما ينسجم مع تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين طالبوا علنًا بقطع المياه والكهرباء عن القطاع وتجويع سكانه كوسيلة ضغط.
عملية الدوحة كمنعطف دبلوماسي
العدوان الإسرائيلي لم يتوقف عند غزة، بل امتد ليطال دولًا أخرى، كان آخرها العملية على الدوحة، التي أثارت موجة غضب وإدانات عربية وأوروبية واسعة، هذه العملية لم تكن مجرد خرق لسيادة دولة عربية، بل مثلت مؤشرًا على أن الاحتلال يتصرف بمنطق "فوق القانون"، ضاربًا عرض الحائط بالقواعد الدبلوماسية والاتفاقيات الدولية.
ردود الفعل لم تتأخر؛ إذ أصدرت عدة دول عربية وأوروبية بيانات إدانة واضحة، معتبرة أن ما قام به الاحتلال يشكل تصعيدًا خطيرًا وتحديًا للمجتمع الدولي، هذا الموقف زاد من عزلة الكيان الذي وجد نفسه في مواجهة غضب متصاعد حتى من بعض حلفائه التقليديين.
العزلة الدولية والفضيحة الأخلاقية
لقد أدى تراكم الجرائم والاعترافات العلنية إلى فضح الاحتلال أمام الرأي العام العالمي، ففي السابق، كانت "إسرائيل" تحاول التستر خلف خطاب "محاربة الإرهاب" و"الدفاع عن النفس"، لكن الصور الخارجة من غزة، مع تصريحات مسؤوليها التي تؤكد استهداف المدنيين عمدًا، أسقطت هذه الرواية.
صحيفة واشنطن بوست على سبيل المثال، نشرت تحقيقًا استقصائيًا في أواخر 2024 وثّق بالصور والفيديو كيف دمر الجنود الإسرائيليون المنازل بشكل احتفالي، وكيف دعوا صراحة لإبادة الفلسطينيين، هذه المواد انتشرت على نطاق واسع وأثبتت أن الاحتلال لم يعد يحاول إخفاء نواياه.
النتيجة كانت تراجع الغطاء الأخلاقي والسياسي الذي كانت بعض الدول الغربية توفره له، ففي أوروبا تحديدًا، بدأت أصوات برلمانية وحزبية ترتفع مطالبة بوقف الدعم العسكري والاقتصادي لـ"إسرائيل"، معتبرة أن استمرار هذا الدعم يجعلها متواطئة في جرائم الحرب.
البعد القانوني.. اعترافات تقود إلى المحاكم الدولية
القانون الدولي الإنساني واضح، استهداف المدنيين والبنية التحتية الأساسية يعد جريمة حرب، أما إذا تم ذلك بشكل واسع ومنهجي بهدف الإبادة أو التهجير القسري، فإنه يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
تصريحات كاتس ومسؤولين آخرين تمثل اعترافًا مباشرًا يمكن استخدامه كأدلة دامغة أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، فحين يقول مسؤول رفيع إن تدمير الأبراج جزء من الاستراتيجية، فهذا يعني أن القرار لم يكن عشوائيًا أو خطأً ميدانيًا، بل سياسة مقررة من أعلى المستويات.
هذا الاعتراف يضع قادة الاحتلال تحت طائلة القانون، ويعزز من الجهود الفلسطينية والدولية لمحاسبتهم.
الأبعاد السياسية والاستراتيجية للتفاخر بالتدمير
من الناحية السياسية، يعكس التفاخر الإسرائيلي بالتدمير محاولة لإرضاء الرأي العام الداخلي المتطرف، وإظهار "الحزم" أمام المعارضة الداخلية التي تتهم الحكومة بالفشل في تحقيق الأمن، لكن هذه السياسة تنطوي على مخاطر استراتيجية، إذ إنها تؤدي إلى مزيد من العزلة الخارجية وتفقد "إسرائيل" قدرتها على كسب التعاطف الدولي.
أما على الصعيد الاستراتيجي، فإن محو البنية التحتية لا يحقق نصرًا عسكريًا حقيقيًا، بل يساهم في تعميق جذور المقاومة، فشعب تعرض للتهجير والإبادة لن يستسلم، بل سيجد في جرائم الاحتلال مبررًا إضافيًا لمواصلة النضال.
مقارنة تاريخية… من صبرا وشاتيلا إلى غزة
ما يحدث في غزة ليس سابقة في تاريخ الاحتلال، بل هو امتداد لنهج قديم يقوم على التهجير والتدمير الممنهج، من مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا، إلى اجتياحات جنين ونابلس، ظل الاحتلال يستخدم سلاح الإرهاب الجماعي لإفراغ الأرض من سكانها.
الجديد في غزة اليوم أن الاحتلال لم يعد يحرص على إخفاء جرائمه، بل بات يعتبر التباهي بها جزءًا من خطابه السياسي، هذا التحول يعكس أزمة عميقة يعيشها الكيان، الذي لم يعد قادرًا على التحكم في صورته أمام العالم.
الاحتلال في مواجهة الحقيقة
إن التفاخر الإسرائيلي بتدمير غزة وأبراجها السكنية وبنيتها التحتية لا يترك مجالًا للشك: ما يجري هو حرب إبادة جماعية تستهدف الفلسطينيين في وجودهم وهويتهم وحقهم في الحياة.
لكن في المقابل، فإن هذه التصريحات نفسها تسرّع وتيرة عزلة الكيان الغاصب وتكشفه أمام الرأي العام العالمي، الذي لم يعد يقبل التبريرات القديمة، ومع كل اعتراف جديد، يقترب الاحتلال خطوة إضافية من لحظة المحاسبة الدولية، سواء عبر المحاكم أو عبر التاريخ الذي سيسجل أن هذه الجرائم ارتُكبت بوعي وقصد، لا بعفوية أو خطأ.
وبعد عملية الدوحة وما تلاها من إدانات عربية وأوروبية، بات واضحًا أن "إسرائيل" لم تعد قادرة على الحفاظ على صورتها كـ"دولة طبيعية" في المجتمع الدولي، إنما هي كيان استعماري يقوم على العنف والتهجير والتدمير، ويصرّ قادته على تقديم الأدلة بأنفسهم على جرائمهم، ليبقى السؤال مفتوحًا: إلى متى يستمر العالم في الاكتفاء بالإدانة دون الانتقال إلى المحاسبة؟