الوقت - في غمار التحولات الجيوسياسية المتعاقبة التي تعصف بأقاليم جنوب آسيا وغربها، تبرز الزيارة الرسمية للدكتور مسعود بزشكيان، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى باكستان لتشكّل منعطفاً تاريخياً ومفرق طرق في مسيرة العلاقات بين الدولتين، هذه الوفادة التي تأتي تلبيةً لدعوة رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، تحمل في طياتها مقاصد جليلة وغايات سامية في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والأمن.
فطهران وإسلام آباد، بما يربط بينهما من وشائج تاريخية متينة وروابط ثقافية عريقة وأواصر دينية وثيقة، تمتلكان من المقومات والإمكانات ما يؤهّلهما للارتقاء بأواصر التعاون الثنائي، والاضطلاع بدور محوري في إرساء دعائم الاستقرار في ربوع المنطقة.
التعاون الاقتصادي؛ من ثلاثة إلى عشرة مليارات دولار؟
من أبرز محاور زيارة الرئيس الإيراني، هي تنمية المبادلات التجارية والاقتصادية مع باكستان وإنعاشها، فحجم التجارة الثنائية الراهن يناهز ثلاثة مليارات دولار، وقد وضع مسؤولو البلدين نصب أعينهم غايةً طموحةً تتمثل في الارتقاء بهذا الرقم إلى عشرة مليارات دولار، ويتشارك البلدان حدوداً مشتركةً تمتد لأكثر من 900 كيلومتر، ما يتيح إمكانات تجارية وتبادلية وترانزيتية هائلة لتحقيق الأهداف الاقتصادية المنشودة.
وفي هذا المضمار، تتصدر المشروعات الواعدة كتوسيع الأسواق الحدودية، وتبادل الكهرباء والوقود، وزيادة عبور البضائع، وتدشين رحلات جوية مباشرة بين حواضر البلدين جدول الأعمال.
تزخر باكستان بطاقات كامنة معتبرة لتصدير المواد الغذائية والمنسوجات، بينما تبدي إيران استعدادها لزيادة صادرات الغاز والنفط والمنتجات البتروكيماوية، ما يفتح آفاقاً رحبةً أمام نمو التبادل التجاري بين الطرفين، ويمهّد السبيل لازدهار اقتصادي مشترك.
في عام 2021، وبموجب اتفاق بين إيران وباكستان، تقرر إنشاء أسواق تجزئة حدودية مشتركة بين البلدين تكون بمثابة جسور للتواصل الاقتصادي والتبادل التجاري، ونصت الاتفاقية على افتتاح ثلاثة أسواق في المرحلة الأولى عند النقاط الحدودية في مناطق كوهك - تشدجي، وريمدان - جبد، وبيشين - مند، على أن تُستحدث في المرحلة الثانية أسواق حدودية في ثلاث نقاط حدودية أخرى لتشكّل منظومةً متكاملةً من الأسواق الحدودية.
وعقب ذلك، وفي أيار/مايو من عام 2023، وخلال زيارة الفقيد السيد رئيسي (الرئيس الإيراني السابق) إلى إقليم سيستان وبلوشستان، وبحضور شهباز شريف رئيس وزراء باكستان، أزيح الستار عن أول سوق حدودي مشترك بين البلدين على حدود “بيشين - مند”، في خطوة تاريخية نحو تعزيز التبادل التجاري وتوطيد أواصر التعاون الاقتصادي.
والآن، أثناء زيارة بزشكيان، رفعت مجموعة الصداقة الاقتصادية الباكستانية الإيرانية في مجلس الشيوخ الباكستاني راية المطالبة بتيسير آليات التجارة المقايضة مع إيران، وخاصةً بين المحافظات الحدودية، بما يسهم في تذليل العقبات التي تعترض سبيل التبادل التجاري بين البلدين.
وفي هذا السياق، أماط أميري مقدم، سفير إيران في إسلام آباد، اللثام عن أنه سيتم خلال هذه الزيارة التاريخية توقيع ما لا يقل عن عشر وثائق تعاون اقتصادي وسياسي بين الطرفين، ومن أهم الاتفاقيات المرتقبة إحياء الرحلات الجوية المباشرة بين طهران وإسلام آباد بعد انقطاع دام عشرين عاماً، وتدشين خمسة مسارات جوية جديدة، ما سيكون له أثر بالغ في تعزيز السياحة وإنعاش التجارة بين البلدين الشقيقين.
ومن الطاقات الكامنة في مجال تقوية التعاون الاقتصادي، والتي يمكن أن تفضي - حال توفر الإرادة السياسية لدى إسلام آباد - إلى نمو متسارع في حجم العلاقات التجارية الخارجية وتهيئة الأرضية الخصبة لتنمية إقليمية مستدامة، قطاع الطاقة الحيوي، ففي هذا المضمار، ظل مشروع خط أنابيب الغاز الإيراني-الباكستاني المعروف باسم “السلام”، قابعاً في أدراج الانتظار لسنوات عديدة بفعل الضغوط الأمريكية المتواصلة، ومع ذلك، أكد مسؤولون باكستانيون مرموقون مثل سليم مندويوالا أن هذا المشروع الحيوي ينأى بنفسه عن الأهداف الأمنية، ويصبّ مباشرةً في مصلحة الشعب الباكستاني الاقتصادية.
ويطالب نواب البرلمان والخبراء الاقتصاديون الباكستانيون الحكومة بنفض غبار الضغوط الخارجية، والوفاء بالتزاماتها تجاه هذا المشروع الاستراتيجي، وتظل المفاوضات حول هذا الخط الحيوي مدرجةً على جدول أعمال إسلام آباد وطهران، وفي حال إزاحة العقبات من طريقه، يمكن أن يمثّل تحولاً جذرياً في منظومة أمن الطاقة بالمنطقة.
كلا البلدين يتبوأان مقعد العضوية في منظمات إقليمية مرموقة مثل منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو) ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتفعيل هذه الأطر المؤسسية يمكن أن يمهّد السبل ويذلل العقبات أمام التفاعلات الإقليمية، وخاصةً مشاريع استراتيجية مثل ممر الشمال-الجنوب للنقل الدولي (INSTC) الذي يربط روسيا وآسيا الوسطى بإيران ثم شبه القارة الهندية، والذي يمكن أن يشكّل - في حال ربطه بشبكة النقل الباكستانية - منصة انطلاق وبوابة عبور لتطوير التجارة الإقليمية وتنشيطها.
وقد سبق أن أكد قائد الثورة الإسلامية في إيران أثناء لقاءاته السابقة مع المسؤولين الباكستانيين، على أهمية تفعيل مؤسسات إقليمية مثل منظمة التعاون الاقتصادي، وتعكس هذه التأكيدات الإستراتيجية أن نظرة طهران للعلاقات مع باكستان لا تنحصر في إطار ثنائي ضيق، بل تتجاوزه لتشكّل حلقةً محوريةً في سلسلة إستراتيجية إيران الإقليمية الكبرى.
التعاون الأمني والإقليمي.. من التهديدات المشتركة إلى العدو المشترك
بعد برهة وجيزة من انطفاء أوار الحرب التي استعرت اثني عشر يوماً بين إيران والكيان الصهيوني، وفي ظل الأوضاع المضطربة التي تموج بها المنطقة، يبرز التعاون الأمني، ولا سيما في المناطق الحدودية، كأحد المحاور الرئيسية لهذه الزيارة التاريخية، فقد مهدت الاتفاقية الأمنية الموقعة خلال زيارة الشهيد الفريق أول محمد حسين باقري العام المنصرم إلى إسلام آباد، الطريق لإقامة تعاون وثيق ومشترك في مواجهة تهديدات خطيرة كالإرهاب المتفشي، والتهريب المنظم، والتحركات الانفصالية في بلوشستان، وانعدام الأمن على الحدود الأفغانية المضطربة.
وفي ضوء مساعي الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الحثيثة لإذكاء نيران عدم الاستقرار في ربوع المنطقة، وخاصةً في الحرب المفروضة التي استعرت اثني عشر يوماً ضد إيران، تجلى التقارب الإيراني-الباكستاني في مواجهة التهديدات المشتركة أكثر من أي وقت مضى، ويأتي إجراء زيارتين رفيعتي المستوى، الأولى من قبل رئيس وزراء باكستان والثانية من قبل رئيس جمهورية إيران في فترة زمنية وجيزة، تأكيداً ساطعاً على هذا التوجه الاستراتيجي.
وفي هذا الصدد، أشاد أميري مقدم، سفير إيران في باكستان، بمواقف الحكومة والشعب الباكستاني المشرفة خلال العدوان الغاشم على إيران، قائلاً: “تأتي هذه الزيارة في ظروف وقفت فيها حكومة وشعب وإعلام باكستان بكل شموخ وإباء إلى جانب إيران في المحافل الإقليمية والدولية خلال الهجوم الصهيوني-الأمريكي، وطوال فترة المقاومة البطولية التي استمرت اثني عشر يوماً للشعب الإيراني الأبي”.
ويرى الخبراء أن بعض التحولات الجيوسياسية الكبرى في خارطة المنطقة، بما فيها تقارب الولايات المتحدة والدول الخليجية مثل الإمارات والسعودية مع الهند - العدو اللدود لباكستان - والضغوط الأمريكية المتصاعدة، ومسار تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، قد دفعت إسلام آباد إلى إعادة النظر في سلم أولوياتها الجيوسياسية، والتوجه نحو علاقات أكثر توازناً وعمقاً مع جيران ذوي ثقل استراتيجي مثل إيران.
تمتلك إيران، بموقعها الجيوستراتيجي الفريد، وإمكاناتها الهائلة في مجال الطاقة، ودورها المحوري والفاعل في محور المقاومة، مقومات الشريك الموثوق والحليف الأمين لباكستان.
وتتشارك إيران وباكستان، بوصفهما قوتين إسلاميتين بارزتين، نقاط التقاء جوهرية ومحورية في السياسات الإقليمية، ومن أبرز هذه النقاط الموقف المشترك والثابت تجاه القضية الفلسطينية المركزية.
وثمة فصل مشرق آخر يتلألأ في سجل التوافقات الإقليمية والإسلامية بين البلدين، وهو موقف باكستان المشرف من العدوان السعودي على اليمن عام 2015، حيث آثرت إسلام آباد - رغم الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة من الرياض وواشنطن - أن تنأى بنفسها عن المشاركة في التحالف السعودي ضد اليمن، ما أظهر بجلاء إمكانية تعاون هذا البلد مع محور المقاومة في مواجهة الأزمات الإقليمية المتلاحقة.
الدور الثقافي والاجتماعي للإعلام والنخب والشعوب
ما لا مراء فيه أن من أهم أوجه التقدم في مسار بناء علاقات إستراتيجية راسخة بين البلدين، الالتفات إلى مسألة الرأي العام وتوثيق الصلات الاجتماعية والثقافية، وهي من خصائص الدبلوماسية العامة المؤثرة في السياسة الخارجية، فتقارب الشعوب إلى جانب الحكومات يشكّل ركيزةً صلبةً وأساساً متيناً لاستمرار التعاون وديمومته، وقد أثبتت التجارب السابقة أن المشروعات التي حظيت بدعم شعبي واسع، بما في ذلك المشاركة الفاعلة للإعلام والنخب الفكرية والقطاع الخاص في متابعة الاتفاقيات وتنفيذها، كانت أوفر حظاً وأكثر نصيباً في تحقيق النجاح المنشود.
وفي هذا المضمار، إلى جانب نظرة التضامن التاريخية العميقة للشعب الباكستاني تجاه الثورة الإسلامية في إيران، والمودة والاحترام الخاص الذي يكنّه لقائدي الثورة الإيرانية، ثمة طاقات ثقافية هائلة وإمكانات معرفية جمة لتنفيذ دبلوماسية عامة ناجحة وفاعلة.
وفي هذا السياق، يستهل السيد بزشكيان زيارته التاريخية بتفقد مرقد العلامة إقبال اللاهوري، الشاعر الفذ والمفكر الفارسي الشهير في لاهور، ذلك الرمز الشامخ للوحدة التاريخية والثقافية بين الشعبين الشقيقين، وتأتي هذه البادرة الرمزية العميقة لتؤكد على الجذور الضاربة في أعماق التاريخ والأواصر الثقافية واللغوية الوثيقة التي تجمع الأمتين المسلمتين، ويمكن للتعاون الثقافي المثمر بين البلدين في مجالات تعليم اللغة الفارسية، وتبادل الطلاب والباحثين، والأنشطة الدينية المشتركة، وتوسيع نطاق وسائل الإعلام ثنائية اللغة، أن يسهم إسهاماً فاعلاً في تعزيز الروابط الوثيقة بين الشعبين الشقيقين.
صفوة القول: خطوة جبارة نحو مستقبل مشترك زاهر
يمكن اعتبار زيارة الدكتور مسعود بزشكيان إلى باكستان، فاتحة فصل جديد مشرق من فصول العلاقات بين طهران وإسلام آباد؛ فصل يعزّز التقارب الإستراتيجي والاقتصادي والأمني والثقافي بين قوتين إسلاميتين بارزتين في الظروف الحساسة والدقيقة الراهنة، هذه الزيارة ليست مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هي حجر زاوية في صرح تغيير المشهد الجيوسياسي الإقليمي، ومؤشر ساطع على العزم المشترك الراسخ لتجاوز التحديات الماثلة، وبناء مستقبل مستدام وآمن في جنوب آسيا وغربها.