الوقت- في مشهد لافت يعكس عمق الفجوة بين الشعوب الأوروبية ومؤسساتها الرسمية، خرج ملك بلجيكا فيليب عن صمته ليوجّه انتقادًا حادًا لموقف أوروبا تجاه الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة، وقال الملك في خطاب رسمي بمناسبة العيد الوطني لبلاده إن ما يجري في غزة "عار على الإنسانية"، داعيًا الاتحاد الأوروبي إلى "إظهار قيادة أقوى" في مواجهة المأساة الإنسانية المتفاقمة في القطاع المحاصر.
جاء تصريح العاهل البلجيكي بعد مجازر دامية شهدها شمال القطاع، قُتل فيها أكثر من 100 فلسطيني خلال يومين، أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات غذائية قرب معبر زيكيم، وأعلنت وزارة الصحة في غزة أن 73 شخصًا استشهدوا الأحد الماضي، فيما قُتل 32 آخرون يوم السبت، بينما تشير بيانات مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى مقتل 674 مدنيًا حتى منتصف يوليو خلال سعيهم للوصول إلى مساعدات غذائية.
خطاب الملك، الذي أوردت تفاصيله مجلة "بوليتيكو" الأمريكية، حمل دلالات رمزية وسياسية كبيرة، وخاصة أنه نادراً ما يخوض ملوك بلجيكا في شؤون السياسة الخارجية أو القضايا الخلافية دولياً، لكن فيليب استثنى هذه المرة، مؤكدًا دعم بلاده لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى إنهاء "هذه الأزمة غير المحتملة فورًا".
صمت مؤسسات الاتحاد الأوروبي
في المقابل، قوبلت المجازر في غزة بصمت رسمي شبه تام من جانب مسؤولي الاتحاد الأوروبي، فرغم وصف مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد، كايا كالاس، للوضع الإنساني في غزة بأنه "كارثي"، فإن اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في بروكسل الأسبوع الماضي لم يُسفر عن أي خطوات ملموسة، بل رفض المجتمعون مقترحات فرض عقوبات على "إسرائيل" بسبب تصرفاتها في القطاع.
الموقف الأوروبي المتردد يعكس الانقسام الحاد داخل التكتل بشأن كيفية التعامل مع "إسرائيل"، حيث ترفض دول مثل ألمانيا والمجر والتشيك اتخاذ أي إجراءات عقابية بحق تل أبيب، في حين تدفع دول أخرى مثل بلجيكا وإيرلندا وإسبانيا باتجاه مواقف أكثر حزمًا وإنصافًا للحقوق الفلسطينية.
مواقف أوروبية سابقة مؤيدة لفلسطين
موقف بلجيكا الأخير ليس استثناءً معزولًا، بل يأتي في سياق تحرك أوروبي بدأ يكتسب زخمًا تدريجيًا منذ أشهر، ولاسيما بعد إعلان كل من إيرلندا، إسبانيا، والنرويج اعترافها الرسمي بدولة فلسطين في مايو/أيار الماضي، القرار الثلاثي كان بمثابة رسالة سياسية ضد استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وشكّل ضغطًا إضافيًا على بقية دول الاتحاد الأوروبي للمضي في مسار الاعتراف الجماعي.
وقد برّرت الحكومة الإيرلندية قرارها حينها بأنه يعكس التزامها العميق بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، في حين دعت إسبانيا إلى "تحرك دولي أكثر فاعلية" لإنهاء الاحتلال ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، وأكدت أن أوروبا لا تستطيع أن تظل أسيرة الصمت أو التواطؤ غير المباشر.
كذلك، دعت النرويج – وإن لم تكن عضواً في الاتحاد الأوروبي – إلى فتح تحقيق دولي مستقل في المجازر الأخيرة، مع التأكيد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن استهداف المدنيين العزل، وخاصة في أماكن توزيع المساعدات، وتنسجم هذه المواقف مع تصاعد الأصوات داخل المجتمع المدني الأوروبي، الداعية لربط العلاقات مع "إسرائيل" بالتزامها بالقانون الدولي.
بيانات دولية وغياب الأفعال
لم يكن ملك بلجيكا وحده في انتقاده للوحشية الإسرائيلية، إذ انضم إليه البابا ليون الرابع عشر، الذي أعرب عن ألمه العميق لما يجري في غزة، وخاصة بعد مقتل ثلاثة أشخاص في الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع إثر قصف إسرائيلي، البابا قال في عظته الأسبوعية بالفاتيكان: "أدعو مجددًا إلى وقف فوري لوحشية هذه الحرب، يجب حظر العقاب الجماعي والاستخدام العشوائي للقوة".
في الوقت ذاته، وقّعت 28 دولة، بينها فرنسا، بريطانيا، كندا، اليابان، أستراليا ودول من أمريكا اللاتينية، بيانًا مشتركًا أدان "القتل غير الإنساني" للفلسطينيين عند نقاط المساعدات، ومع ذلك، لم تتضمن تلك البيانات أي تحركات عملية لوقف الانتهاكات، كما غابت عنها أصوات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما أثار موجة انتقادات جديدة من منظمات حقوقية أوروبية.
رسالة موظفي الاتحاد: "فشل أخلاقي"
في موقف نادر، وقّع أكثر من 200 موظف في مؤسسات الاتحاد الأوروبي رسالة مفتوحة نشرتها صحيفة "الغارديان"، أعربوا فيها عن خيبة أملهم من "تقصير الاتحاد وفشله في اتخاذ إجراءات ذات معنى منذ بداية الحرب"، وجاء في الرسالة أن المواقف الرسمية الحالية تمثل "خيانة للقيم الأوروبية"، وتنطوي على "ازدواجية خطيرة" بين تعامل الاتحاد مع قضايا مثل أوكرانيا وغزة.
الاحتجاجات في بروكسل ومدن أوروبية أخرى، والبيانات الصادرة من الموظفين داخل الاتحاد، والتصريحات المتقدمة لبعض العواصم، تؤكد أن الفجوة تتسع بين الرأي العام الأوروبي والمؤسسات السياسية التي تبدو مكبّلة بمصالحها الجيوسياسية أو تحالفاتها التقليدية.
هل يشكّل الموقف البلجيكي نقطة تحول؟
تصريحات الملك فيليب قد لا تترتب عليها قرارات تنفيذية مباشرة، لكنها تحمل وزنًا رمزيًا وثقافيًا لا يُستهان به، وخصوصًا في ظل احتضان بلجيكا للمؤسسات الرئيسية للاتحاد الأوروبي، كما أن هذا الموقف قد يُحرج بعض العواصم الصامتة، ويشجع دولًا مثل إيرلندا وإسبانيا على المضي في المطالبة بخطوات قانونية ملموسة ضد جرائم الحرب في غزة.
ومع استمرار المجازر في القطاع، وتدهور الوضع الإنساني إلى مستويات وصفتها المنظمات الأممية بأنها "غير مسبوقة"، يتزايد الضغط على الاتحاد الأوروبي لتجاوز الخطاب التقليدي، والانتقال إلى سياسات أكثر حزمًا، ويشمل ذلك إعادة النظر في اتفاقيات الشراكة مع "إسرائيل"، وفرض قيود على تصدير الأسلحة، ودعم مسارات التحقيق الجنائي الدولي، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
خلاصة المشهد الأوروبي
بين صوت ملك بلجيكا، وتوقيعات مئات الموظفين الغاضبين، والبيانات الناقصة من بعض العواصم، وصمت العواصم الأخرى، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق أخلاقي وسياسي حقيقي، إما أن تتحرك بما يليق بقيمها المُعلنة ومواثيقها الحقوقية، أو تُخلي مكانتها العالمية كقوة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان.
في غزة، يُقتل الجائعون في طوابير الخبز، وتُستهدف الكنائس والمستشفيات، وتُقصف المدارس والمراكز الطبية، بينما العالم يراقب، لكن وسط كل ذلك، يرتفع صوت من قلب أوروبا يذكّر بأن الإنسانية لم تُقتل بعد، وأن الشجاعة الأخلاقية قد تبدأ بكلمة.. وإن جاءت من ملك.