الوقت - لقد كانت سوريا شاهدةً على وعود زائفة أطلقها الغرب وأذنابه الإقليميون عقب سقوط حكومة بشار الأسد وصعود الجماعات الإرهابية، وعود تنبئ بمستقبل زاهر يعمّه الاستقرار وتغمره أجواء الازدهار، غير أن تلك الوعود لم تكن سوى سراب خادع، إذ سرعان ما أُلقيت سوريا في أتون فوضى عارمة، أشدّ وطأةً وأعمق جراحاً مما سبق، وبعد أشهر طويلة عجاف، لم تذق البلاد طعم السكينة، ولم ترَ بارقة أمل تعيد لها استقرارها المفقود، وزاد الأمر سوءاً، ما اقترفته آلة العدوان الصهيونية من ضربات متكررة على البنى التحتية، أحالت سوريا إلى مسرح دائم للفوضى والدمار، غارقةً في أتون الأزمات الإنسانية والكوارث المتفاقمة.
وإن كانت آلة الحرب الصهيونية تروّج لعدوانها تحت عباءة الادعاءات الإنسانية الزائفة، كحماية الأقلية الدرزية، فإن الحقيقة الناصعة التي لا يداخلها ريب تكمن في مخطط خبيث يهدف إلى تقويض أسس الدولة السورية، وزرع بذور الفتنة والانقسام في أوصالها، وتثبيت أقدام الاحتلال على أرضها، وقد تجلت هذه النوايا السوداء بوضوح في تحركات الأيام الأخيرة.
إن ما يقوم به الکيان الصهيوني ليس إلا جزءاً من استراتيجية مبيّتة، ترمي إلى إضعاف السيادة السورية، وصياغة نموذج جديد يتيح له مواجهة قوى المقاومة في المنطقة بأسرها، أما ذريعة حماية الدروز، فلا تعدو كونها ورقةً دعائيةً للالتفاف على الرأي العام الغربي، والتستر على النوايا الحقيقية لهذا العدوان، الذي يُظهر كيف أن إضعاف الدفاعات الوطنية وتمزيق النسيج الداخلي لأي بلد، يجعله نهباً سهلاً للاجتياح والهيمنة.
وفي هذا المقام، نبتغي أن نسلط الضوء على التجربة السورية، لا بوصفها مأساةً وطنيةً فحسب، بل كناقوس خطر يدوي في آذان لبنان والعراق، داعياً إياهما إلى التعقل والتيقظ، حتى لا ينزلقا في مستنقع الخداع، ولا يفرطا في سياجهما المنيع، فيجدان نفسيهما أسيرَيْن لمكائد الأعداء ومصائدهم.
بعد سوريا، الدور الآن على لبنان والعراق
حين سقطت القلعة الحصينة للمقاومة في سوريا، تحولت الأنظار إلى لبنان والعراق، حيث يقف هذان البلدان شامخين كآخر الأسوار المنيعة في وجه المشروع الصهيوني التوسعي، فكلاهما يحتضن قوى مقاومة فاعلة كحزب الله والحشد الشعبي، اللذين باتا يشكّلان العائق الأكبر أمام أطماع الكيان المحتل، وسداً منيعاً في وجه تمدده.
وفي هذا السياق، شرعت القوى الغربية، عبر أدواتها الدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية، في شنّ حملة مدروسة لإضعاف هذه القوى أو إزاحتها من المشهد، تحت شعارات براقة مثل “تعزيز سيادة الدولة” و"احتكار السلاح"، تخفي هذه الدعوات نواياها الحقيقية، التي لا تهدف إلا إلى تجريد الشعوب من أدوات الدفاع عن كرامتها، وتفكيك البنية الراسخة التي تصدّت بشجاعة للمخططات الصهيونية.
في لبنان، يُعد حزب الله رمزاً للمقاومة التي أذلّت الاحتلال الصهيوني وأجبرته على الاندحار في عام 2000، ثم تصدت ببسالة لغطرسته في حرب تموز 2006، هذا الحزب الذي قضى أربعة عقود في مواجهة الكيان المحتل، لم يقتصر دوره على ردع العدوان، بل كان ركناً أساسياً في حفظ التوازن الداخلي للبنان، ومنع الكيان الصهيوني من استباحة أراضيه مرةً أخرى، ومن هنا، فإن الأصوات المطالبة بنزع سلاحه لا تسعى إلى دعم الدولة أو تعزيز قدرات جيشها، بل تمهّد الطريق لـ "إسرائيل" كي تمدّ يدها دون حسيب أو رقيب إلى الجنوب اللبناني.
أما في العراق، فإن الحشد الشعبي يتربع على صدارة المشهد السياسي والأمني، ليس فقط كقوة عسكرية صلبة دحرت تنظيم "داعش" الإرهابي، بل كركيزة وطنية استمدت شرعيتها من دعم شعبي واسع وغطاء سياسي متين، وقد أثبت الحشد الشعبي أنه ليس مجرد تشكيل عسكري، بل هو جزء لا يتجزأ من العمق الاستراتيجي للعراق، إذ لعب دوراً محورياً في التصدي للتدخلات الخارجية، ولا سيما تلك التي تحملها أجندات الهيمنة الأمريكية.
الحشد الشعبي، بما يملكه من شرعية دينية وإسناد شعبي وتماسك فكري، لم يكن مجرد أداة ردع، بل تحوَّل إلى عنصر حاسم في حماية العراق من مخاطر التفكك، ودعامة أساسية لاستقراره السياسي والأمني، فهو ليس قوةً طارئةً أو عابرةً، بل يمثّل جزءاً من روح العراق المقاومة، وسياجه الذي يحمي استقلاله من محاولات العبث والاختراق.
إن الحقيقة التي لا تقبل جدالاً هي أن نزع سلاح المقاومة في لبنان والعراق لن يجلب استقراراً، بل سيقود إلى فوضى عارمة قد تصل إلى خطر التفكك والانهيار، ففي العراق، حيث التعددية العرقية والدينية تلتقي مع هشاشة سياسية وتدخلات أجنبية، فإن إضعاف الحشد الشعبي لن يكون إلا بوابة لصراعات داخلية دامية، وقد يفتح شهية القوى الانفصالية التي تتربص بالوطن.
وفي لبنان، الذي يئنّ تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة وغضب شعبي متزايد، فإن نزع سلاح حزب الله لن يؤدي إلا إلى اختلال موازين القوى، وخلق فراغ أمني خطير أمام تهديدات الكيان المحتل، وكما رأينا في سوريا، حين أفضى ضعف الدولة المركزية وتجريدها من أدوات الدفاع إلى استباحة أراضيها من قبل الكيان الصهيوني، فإن تكرار هذا السيناريو في لبنان والعراق، سيُسلم هذين البلدين على طبق من ذهب إلى أطماع الاحتلال.
تنفيذ مشروع “الشرق الأوسط الجديد”
إن الأهداف البعيدة التي يتوخاها الكيان الصهيوني من تحركاته العسكرية ومساعيه الدبلوماسية، لا بد أن تُفهم في سياق مشاريعه الاستراتيجية الكبرى، مثل “الشرق الأوسط الجديد”، أو المخطط الشهير الذي يتردد ذكره باسم “من النيل إلى الفرات”، ففي هذه المخططات، تُرسم خريطة لمنطقة غرب آسيا أشبه بالفسيفساء المهشّمة، تُجرد فيها الكيانات الوطنية من مقوماتها، ليظهر الكيان الصهيوني قوةً مركزيةً ذات سطوة طاغية، مستغلاً حالة الفراغ السياسي والعسكري الناجم عن إضعاف الدول المحيطة وتفتيتها.
وفي هذا السيناريو المرعب، يشكّل القضاء على قوى المقاومة في لبنان والعراق مقتلًا في قلب منظومة الدفاع عن سيادتهما، إذ يُخلّف فراغًا مهولًا يُسهم في تمهيد الساحة لتقسيم هاتين الدولتين، أو على الأقل لتسلل الهيمنة الصهيونية وحلفائها على مهلٍ، تحت مسميات خادعة وبأساليب ملتوية، فإذا ما وقع العراق ولبنان، نتيجة هذه المؤامرات، في براثن الدمار والتفتت بفعل القضاء على قوى المقاومة، فإن الكيان الصهيوني سيتمكن دون عناء من استثمار هذه الثغرات ليبسط أذرعه النافذة ويُرسخ سيطرته على كامل الإقليم، معتمدًا على أدواته الأمنية والعسكرية لتحقيق طموحاته التوسعية.
ما جرى في سوريا ليس سوى نموذج لما قد يتكرر في العراق ولبنان إن لم تؤخذ التحذيرات على محمل الجد، فالمشهد السوري الذي رأيناه، حيث تفككت البنية الدفاعية وتلاشت قوى المقاومة، أفضى إلى تحول البلاد إلى ساحة مستباحة أمام هجمات تل أبيب المتكررة، واليوم، تُمارس الضغوط على لبنان والعراق من القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لنزع سلاح المقاومة، وتتصاعد في الأفق أصواتٌ تروّج للتطبيع مع الكيان الصهيوني، في مشهدٍ يثير الريبة ويستدعي اليقظة.
على حكومات لبنان والعراق أن تعي هذه الحقيقة الاستراتيجية، وهي أن نزع سلاح المقاومة يعني عمليًا تجريد بلديهما من درعهما الواقي، وتركهما في مواجهة العدو المحتل بلا حول ولا قوة، إن ما يُعرض عليهم من وعودٍ أمنية واقتصادية ما هو إلا سراب يخفي خلفه أطماعًا توسعية، تُهدّد وجودهم الوطني برمته.
لقد رأينا هذا السيناريو يُنفذ في سوريا، حيث وعدت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني برفع العقوبات وتقديم الدعم الاقتصادي، في محاولةٍ لتثبيت محمد الجولاني كبديل عن المقاومة الشعبية، لكن الواقع كشف زيف هذه الوعود، إذ لم تكن النتيجة سوى سبعة أشهر من الهجمات المتواصلة التي استهدفت البنية التحتية وأرهقت البلاد، لأن غياب المقاومة الشعبية جعل الأرض مستباحةً أمام الأعداء بلا رادع أو حاجز.
الخاتمة
إن تجربة سوريا تقدّم درسًا صارخًا: ضعف الدولة يفتح الأبواب أمام الأعداء للتدخل، والاحتلال، وإعادة رسم الحدود وفق مصالحهم، واليوم، يقف لبنان والعراق على حافة الهاوية، إذ إن نزع سلاح المقاومة لا يهدّد أمنهما فحسب، بل يمهّد الطريق للاحتلال والتقسيم، المقاومة ليست خيارًا عابرًا، بل هي ضرورة وجودية للحفاظ على الاستقلال والكرامة ومستقبل الشعوب، وأي تراجع أمام مشاريع التطبيع أو نزع السلاح هو خطوة لا رجعة فيها نحو خطر داهم، وقرار يُلقي بالبلاد في مهب الريح، ويُعرضها للفناء.