الوقت- بدأت تتوضح معالم المشهد السوري اليوم والذي أخذ مساراً يرتكز على دوامة من العنف والكراهية، في هذا السياق، تبدو الطائفية العميقة لا تزال حيّة في أذهان بعض القيادات السياسية والمسلّحة، بل يتم التعبير عنها بشكل سافر وخطير، ليس فقط في الخفاء، بل في تصريحات علنية لوزراء في الحكومة السورية الانتقالية، وأيضًا في ممارسات على الأرض طالت نساءً وفتيات علوية، لتكشف عن شكل آخر من الوحشية، ولكن هذه المرة تحت راية "الثورة" لا "الاستبداد"، وبذلك تكون حكومة الجولاني قد خلعت قناع التسامح ليزهر الوجه الحقيقي القائم على التحريض والعنف المنظم ضد الأقليات الدينية
حسب تقارير موثقة فإن عمليات خطف واغتصاب النساء العلويات توثق حالات اختطاف ما بين 50 و60 امرأة وفتاة علوية، أُخِذن كسبايا جنسية وزُوّجن قسريًا بأمر من مسلّحين تابعين للجولاني داخل إدلب وحلب فيما تشير التقارير التي تتحدث عن مجازر وقتل جماعي إلى أن أكثر من 1,500 مدني من الأقليات قُتلوا منذ ديسمبر 2024، بينهم العلويون والدروز والمسيحيون؛ وحدَثت عمليات اقتحام واغتصاب المنازل والمذابح الليلية في جبلة واللاذقية، بشكل عام يعيش الأقليات في سوريا اليوم في ظل رعب دائم من الاعتقالات التعسفية والتصفية، دون أي حماية من السلطات الجديدة.
خطاب وزاري يفضح العقلية الطائفية: الوزير الذي قسّم العلويين إلى "خدم" و"مجرمين"
في فيديو تداوله السوريون على نطاق واسع، ظهر وزير الثقافة في الحكومة السورية الانتقالية، محمد ياسين صالح، ليقدّم أحد أسوأ الأمثلة عن التمييز الطائفي والطبقي، حين صنّف العلويين في سوريا ضمن فئتين لا ثالث لهما: "خدم بيوت" أو "مجرمون".
هذا التصريح، الذي لا يمكن وصفه إلا بالعنصري، صدم قطاعًا واسعًا من السوريين، حتى من أبناء الطائفة السنية التي ينتمي إليها الوزير، وأطلق موجة من الغضب والانتقادات، واستنكار واسع النطاق لما وُصف بأنه تنميط فجّ بحق مكوّن سوري مهم.
الوزير لم يكتفِ بالإساءة إلى رجال الطائفة العلوية، بل ذهب أبعد من ذلك حين تحدّث عن النساء العلويات، ليقول: "إذا كانت من النساء اللواتي يساعدن في البيوت، فزوجها نظيف"، أما "إذا كانت من الطبقة التي يحبها النظام"، فهي من أصحاب "القابلية الإجرامية"، حسب تعبيره.
مثل هذا الخطاب ليس فقط طائفيًا، بل ينضح بالتمييز الطبقي والنظرة الدونية للمرأة، وهو ما دفع كثيرين من الكتّاب والمثقفين السوريين للتنديد بما صدر عن الوزير، من هؤلاء صانعة الأفلام آلاء عامر التي قالت: "كسنيّة أعتذر لكل رفقاتي العلويين... البلد منهار اجتماعيًا وثقافيًا، ويجي شاعر البلاط يرسّخ الكراهية".
أما الروائي عمر قدور فوصف الوزير بأنه "طائفي وضحل في آن معًا"، في حين أشار الكاتب أنس حمدون إلى أن هذا الوزير "أداة في مشروع تدمير الثقافة وخلق بديل فاشي".
الملفت هنا، أن وزير الثقافة، وهو من يُفترض أن يكون حارسًا للإرث الإنساني والروحي المتنوع لسوريا، قد حوّل منصبه إلى منبر للكراهية والإقصاء، وكأن المرحلة القادمة لا تحتاج إلى مصالحة وطنية، بل إلى تصفية حسابات جماعية.
رموز العلويين الثقافية: ردّ حضاري على التحريض الطائفي
في خضم هذه الأزمة، حاول بعض المثقفين السوريين تذكير الوزير ومن يشاطره الرؤية الطائفية بأن الطائفة العلوية قدّمت رموزًا عظيمة للثقافة السورية، لا يمكن لأي خطاب تحريضي أن يمحو بصماتهم، مثل الشاعر بدوي الجبل، والمفكر أدونيس، والكاتب حيدر حيدر، والمسرحي سعدالله ونوس، وغيرهم، هؤلاء ساهموا في تشكيل الهوية الثقافية السورية العابرة للطوائف والانتماءات، وأثبتوا أن الانتماء الطائفي لا يُلغي القدرة على الإبداع والمساهمة الحضارية.
ووسط هذه العاصفة، برزت مقارنة مؤثرة بين الوزير الطائفي، محمد ياسين صالح، ووزير الطوارئ رائد الصالح، الذي نال احترام السوريين كافة لمشاركته في إخماد حرائق الساحل السوري، موحّدًا مشاعر السوريين من مختلف الانتماءات.
الطائفية في وجهها الدموي: اختطاف واغتصاب النساء العلويات
لكن الأخطر من الخطاب، هو الواقع الذي يتكشف في مناطق النفوذ المسلّح، ولا سيما في إدلب وبعض مناطق الشمال السوري التي تسيطر عليها جماعات متشددة تدور في فلك "هيئة تحرير الشام" بزعامة الجولاني.
في هذه المناطق، تحوّلت النساء العلويات إلى أهداف مباشرة لحملات خطف ممنهجة، تنتهي في كثير من الأحيان بالاحتجاز، والاغتصاب، والزواج القسري، أو حتى البيع كسَبَايا، الفتاوى المتكررة مثل “دم ونساء العلويين حلال” من قبل رجال دين تابعين لهيئة تحرير الشام تتنافى مع أي روح دينية إنسانية، وتفضح رغبة في تطهير بـ”ديني” يقوده النظام الجديد.
شهادات صادمة
وثق تقرير صادر عن مجلة "The Spectator" البريطانية شهادات صادمة لنساء علويات تم اختطافهن واحتجازهن لأغراض جنسية أو انتقام طائفي، ومن أبرز تلك الشهادات، قصة "سميرة"، وهي شابة في الثالثة والعشرين من عمرها، اختُطفت من الشارع في حمص على يد مسلحين مقنّعين يقودون شاحنة عسكرية مموّهة، روت سميرة أنها تعرضت للاغتصاب الجماعي مرارًا، وأُجبرت على العيش في ظروف مهينة، إلى أن تمكنت من الهرب.
الرواية تفيض بأهوال لا توصف: عشرات الرجال تناوبوا على اغتصابها، شتموها بألفاظ طائفية مهينة من قبيل "نُصيرية" و"عاهرة كافرة"، ضربوها بعقب البنادق، وجعلوا من جسدها ساحة لإشباع حقدهم الطائفي باسم "الثأر من النظام".
ليست سميرة وحدها؛ التقارير تتحدث عن عشرات الحالات المشابهة. وبحسب نشطاء علويين، فإن عدد المختطفات قد يصل إلى 60 فتاة وامرأة، يُحتجز بعضهن في منازل خاصة، فيما تم "بيع" أخريات في إدلب وحلب.
الأدهى من ذلك، أن السلطات الجديدة في بعض مناطق المعارضة لا تحرّك ساكنًا، بل تتواطأ ضمنيًا مع هذه الجرائم، سواء بالتغطية عليها أو بتبريرها ضمن منطق الثأر الجمعي، ما يحوّل "العدالة" التي بشّر بها البعض بعد سقوط النظام، إلى انتقام جماعي على أساس الهوية.
ازدواجية المعايير ومخاطر مستقبلية
ما نراه اليوم في خطاب وزير، أو في ممارسات مسلحة ضد طائفة كاملة، هو الوجه الآخر للطائفية، ولكن بثوب "الثورة"، في الوقت الذي يدين فيه الجميع جرائم النظام ضد السنّة، فإن الصمت عن الجرائم ضد العلويين – سواءً كانت لفظية أو جسدية – هو انحطاط أخلاقي ومجتمعي خطير.
من جهة، يُطلَق على امرأة سنية معتقلة لقب "مظلومة"، ومن جهة أخرى، تُختطف فتاة علوية وتُغتصب وتُباع، فلا يُقال عنها سوى أنها "تابعة للطاغية"، وكأن الهوية تبرر الجريمة.
هذه الازدواجية ليست فقط مجحفة، بل تُنذر بأن مستقبل سوريا بعد الأسد قد يكون أشد ظلامًا إن استمرت هذه العقليات في إدارة المشهد.
ختام القول
إن الجرائم التي ارتكبتها عصابات الجولاني منذ سقوط الأسد بحق الأقليات الدينية في سوريا ليست رد فعل عفويًا، بل وَثيقة إدانة لمنهجية متعمدة ومخطط لها. هذه الجرائم – من اغتصاب وبيع النساء العلويات، إلى إحراق شجرة الميلاد والطرد الجماعي للعلويين من منازلهم – ليست سرًا بل معارك تُخاض في العلن، في الشوارع والبيئات والمحاكم.
النكسة الحقيقية في هذا الواقع هي أن العنصرية والكراهية لم تعد تُمارس في الظل، بل مدعومة من عتاد يفترض أنه يمثل "الدولة الجديدة"، وما يجمع عليه أغلب السوريين اليوم أنه لا يمكن إعادة بناء سوريا على ركام الطائفية والانتقام، سوريا لن تقوم على أنقاض نساء مختطفات، ولا على تصريحات وزراء يفرزون المواطنين كأنهم عبيد ومجرمون، بل إن سوريا تحتاج إلى خطاب وطني جامع يعترف بالاختلاف ويحوّله إلى مصدر غنى، لا إلى ذريعة للذبح والخطف.