الوقت- شهد الملف اليمني في الآونة الأخيرة تطورًا سياسيًا وإعلاميًا لافتًا، بعد تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، التي أثارت موجة استياء وغضب من قبل حركة أنصار الله، فبينما تستمر التوترات في منطقة البحر الأحمر في سياق العدوان الإسرائيلي على غزة، واتساع رقعة التصعيد الإقليمي، جاء موقف غروندبرغ بنبرة انتقادية تستهدف هجمات الجيش اليمني ضد سفن إسرائيلية، دون أن يتطرق بوضوح إلى جرائم الاحتلال في غزة أو الغارات التي تطال اليمن.
هذا الانحياز الظاهر، وفق ما ترى صنعاء، يعد خروجًا عن مبدأ الحياد الذي يُفترض أن تلتزمه الأمم المتحدة ومبعوثوها، وخاصة في سياقات نزاع معقّدة كاليمن، ويعيد هذا الموقف النقاش مجددًا حول دور المنظمة الدولية، وفاعليتها، وقدرتها على التوازن في معالجة النزاعات، في هذا المقال، نحاول تفكيك أبعاد هذا الموقف، وتحليل تداعياته على مسار السلام في اليمن، ودوره في تعقيد المشهد الإقليمي المتأزم.
حياد الأمم المتحدة على المحك
لطالما ادّعت الأمم المتحدة أن حيادها هو الأساس الذي تستند إليه في تعاطيها مع الأزمات الدولية، لكن مواقف مبعوثها إلى اليمن، هانس غروندبرغ، أثارت شكوكًا كبيرة بشأن مصداقية هذا الحياد، فقد تجاهل غروندبرغ في بيانه الأخير الإشارة إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما أسفر عنه من آلاف الضحايا المدنيين، مكتفيًا بالتعبير عن قلقه من الهجمات اليمنية على سفن مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي.
هذا التجاهل ليس مجرد غفلة دبلوماسية، بل يحمل في طياته رسالة سياسية ضمنية مفادها بأن مصالح الكيان الإسرائيلي تحظى بأولوية في التغطية الأممية، حتى على حساب معاناة الشعوب الأخرى، مثل الفلسطينيين واليمنيين.
من وجهة نظر أنصار الله، فإن هذا الموقف يعكس انحيازًا صارخًا، ويتنافى مع المهمة الأساسية لأي مبعوث أممي، وهي تسهيل السلام عبر إقامة حوار بين أطراف النزاع، دون الاصطفاف مع طرف على حساب آخر. ويثير هذا التصرف تساؤلات عميقة حول الدور الحقيقي للأمم المتحدة في مناطق الصراع، وخاصة عندما تصبح المنظمة أداة لتبرير سياسات قوى كبرى.
السياق الإقليمي وتأثيراته على الداخل اليمني
لا يمكن فصل مواقف غروندبرغ عن السياق الإقليمي المتوتر، وخصوصًا مع اشتداد العدوان الإسرائيلي على غزة، وامتداد آثاره إلى البحر الأحمر، حيث قامت القوات اليمنية التابعة لأنصار الله بتنفيذ عمليات استهدفت سفنًا إسرائيلية أو مرتبطة بـ"إسرائيل"، في خطوة اعتبرتها صنعاء دعمًا للمقاومة الفلسطينية وامتدادًا لموقفها المبدئي، في المقابل، اتخذ غروندبرغ موقفًا انتقاديًا من هذه العمليات، محذرًا من "زج اليمن في صراعات إقليمية".
هذا التوصيف بحد ذاته يمثل تحريفًا للواقع، من وجهة نظر صنعاء، إذ إن اليمن، وبالأخص جماعة أنصار الله، لم تُزج بنفسها في الصراع، بل كانت دائمًا هدفًا مباشرًا لتحالفات إقليمية ودولية، بدءًا من التحالف السعودي الإماراتي وصولًا إلى الهجمات الجوية الأمريكية والإسرائيلية في الآونة الأخيرة، وبالتالي فإن الحديث عن تهديد "الهشاشة اليمنية" نتيجة مواقف صنعاء، يُعد قلبًا للحقائق، وإغفالًا للعدوان المتكرر على السيادة اليمنية.
إن تجاهل الأسباب الحقيقية للتصعيد في البحر الأحمر، وتوجيه اللوم فقط إلى الطرف اليمني، يُغذي الانقسام الإقليمي، ويمنح الشرعية لسياسات الهيمنة التي تمارسها قوى الاحتلال والهيمنة، بدلاً من الدفع نحو حل عادل وشامل يراعي مصالح كل الأطراف.
تداعيات الموقف الأممي على مسار السلام اليمني
الموقف الأخير لمبعوث الأمم المتحدة لا يقتصر على كونه تصريحًا إعلاميًا، بل يمتد أثره إلى مسار السلام المتعثر في اليمن. فالثقة التي كانت محدودة أصلًا بين صنعاء والمبعوث الأممي، باتت الآن على المحك، مع تهديد وزارة الخارجية اليمنية بقطع العلاقات مع مكتب غروندبرغ، هذه التطورات تضع عقبة إضافية أمام جهود التفاوض، وتزيد من الفجوة بين الأطراف اليمنية والوسيط الأممي.
من جهة أخرى، فإن انعدام الثقة هذا يهدد بتقويض أي مبادرات جديدة للتسوية، وخصوصًا إذا ما شعرت صنعاء بأن المنظمة الأممية فقدت قدرتها على لعب دور الوسيط النزيه، وهذا الوضع لا يخدم فقط أجندة الحرب، بل يدفع القوى اليمنية إلى البحث عن بدائل دبلوماسية خارج الأطر الأممية، سواء عبر وساطات إقليمية أو عبر فرض واقع عسكري يعزز شروطهم التفاوضية، كما أن ذلك يبعث برسالة سلبية إلى الأطراف الأخرى في النزاع، بأن الآليات الدولية لم تعد قادرة على تحقيق نتائج حقيقية، ما يغذي النزعة إلى الحلول الأحادية، أو حتى إلى تصعيد الصراع بدلاً من احتوائه، وفي ظل هذه المعطيات، فإن احتمالية عودة التصعيد العسكري باتت واردة أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يعيد الأزمة اليمنية إلى نقطة الصفر.
أنصار الله وتثبيت معادلة الردع في البحر الأحمر
تحركات أنصار الله في البحر الأحمر لا تأتي من فراغ، بل هي جزء من معادلة استراتيجية تسعى الحركة إلى تثبيتها، مفادها بأن أمن البحر الأحمر لن يكون بمنأى عن تطورات الساحة الفلسطينية، ومن هذا المنطلق، فإن استهداف السفن المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي يمثل رسالة مزدوجة: دعم للمقاومة في غزة، ورفض لتحييد اليمن عن قضايا الأمة، ومع اشتداد العدوان على غزة، وتصاعد الاستفزازات الإسرائيلية والأمريكية، اختارت صنعاء أن تجعل البحر الأحمر ساحة ضغط إقليمي، عبر ما تصفه بـ"الردع المشروع".
لكن هذه المعادلة تثير جدلاً دوليًا، وخصوصًا في ظل التداخل بين الملاحة الدولية والمصالح التجارية العالمية، رغم ذلك، ترى أنصار الله أن من غير المقبول أن يستمر الكيان الإسرائيلي بارتكاب المجازر في غزة، بينما يُطالب اليمن بالصمت، بحجة الحياد أو حفظ الأمن البحري. من هذا المنظور، فإن موقف غروندبرغ بدا وكأنه يمنح شرعية للاعتداءات الإسرائيلية، ويغفل تمامًا عن حق اليمنيين في الرد والدفاع، وبالتالي، فإن تثبيت معادلة الردع في البحر الأحمر بات اليوم، بالنسبة لأنصار الله، قضية سيادة وطنية وإستراتيجية إقليمية، لا يمكن التراجع عنها، حتى لو أدى ذلك إلى توتر العلاقات مع الأمم المتحدة أو بعض القوى الدولية.
في الختام، الموقف الأخير لمبعوث الأمم المتحدة، هانس غروندبرغ، أعاد إلى الواجهة إشكالية الحياد الأممي في النزاعات، وخاصة تلك التي تتقاطع فيها المصالح الدولية مع قضايا التحرر الوطني، كما هو الحال في اليمن وفلسطين.
غضب أنصار الله لم يكن وليد لحظة، بل تراكم لسنوات من التجاهل الدولي لمعاناة اليمنيين تحت الحصار والعدوان، واليوم، ومع تصاعد التوترات الإقليمية، بات على الأمم المتحدة أن تعيد تقييم أدائها، إن كانت ترغب فعلاً في لعب دور الوسيط النزيه لا طرفًا ضمنيًّا في الصراع، ما حدث يجب أن يكون جرس إنذار لمؤسسات المجتمع الدولي بأن استمرار ازدواجية المعايير سيؤدي إلى تآكل الثقة بالشرعية الدولية، وفتح المجال أمام الفاعلين غير الدوليين لتثبيت واقع جديد بالقوة، وإن لم يُعالج هذا الخلل، فإن فرص السلام في اليمن والمنطقة ستبقى بعيدة، وستتغلب منطق القوة على منطق الحوار والعدالة.