الوقت - مع إطلالة "الرابع عشر من خرداد"(4 يونيو/حزيران)، تتجدد الذكرى السادسة والثلاثون لارتحال الإمام الخميني(رحمه الله) إلى ملكوت ربه، لتمنحنا - كما في سالف الأعوام - فرصةً سانحةً في مراسم تخليد هذا القائد الفذّ في ربوع إيران الإسلامية وأرجاء واسعة من العالم الإسلامي، لسبر أغوار شخصيته العرفانية والدينية، واستكشاف ميراثه الخالد في ميادين العلم والفكر والسياسة والجهاد إبان فترة زعامته الملهمة.
إن هذه التأملات والتحليلات لا تنبثق فقط من فيض الولاء العميق لمريديه ومحبيه، بل تستمد جذورها من رصد الأثر البالغ لأفكاره ورؤاه وتراثه السياسي الذي أورثه للعالم من بعده، وتنبؤاته الثاقبة بمسارات التحولات العالمية التي استعصى فهمها في زمانه، بينما تشهد البشرية اليوم تحققها بجلاء لا يخفى على ذي بصيرة.
ويبرز موقف الإمام الخميني(رحمه الله) ورؤيته وتدابيره تجاه قضية فلسطين، كأحد أثمن كنوز إرثه السياسي والنضالي، فلطالما شكّلت فلسطين إحدى أعظم هموم العالم الإسلامي، غير أن الأمر الجدير بالتأمل هو أن هذه القضية قد أضحت في زماننا، أكثر من أي حقبة مضت وأكثر من أي قضية أخرى في التاريخ المعاصر، الحدّ الفاصل بين معسكر الحق ومعسكر الباطل، والمعيار الفارق بين نهج الدول الاستعمارية المستكبرة، ونظيراتها المناصرة للعدالة والحرية.
في عصرنا الراهن، وبصورة غير مسبوقة، رسمت مواقف الدول والشعوب إزاء الفظائع الصهيونية، خطاً جلياً يفصل بين أدعياء حقوق الإنسان الزائفين والمدافعين الحقيقيين عن صروح العدالة، وكما تنبأ الإمام(رحمه الله) بثاقب بصيرته، فقد غدت فلسطين محك صدق للحركات التحررية والدول؛ إذ تتهاوى شعارات حقوق الإنسان الجوفاء أمام دعم قتل الأطفال والاستيلاء على الأراضي.
وهذا يكشف النقاب عن عمق بصيرة الإمام الخميني(رحمه الله) وإدراكه الفذّ لمحورية قضية فلسطين، وكونها البوصلة والميزان في مسار تحولات العالم المعاصر.
في حقبةٍ انساقت فيها ثلة من الأنظمة العربية والإسلامية تحت وطأة النفوذ الاستعماري نحو مهاوي التطبيع مع الكيان الصهيوني، ارتقى الإمام الخميني(رحمه الله) - بفراسته النافذة لمؤامرات الاستكبار العالمي - بقضية فلسطين إلى مقام المحور الأساسي في مسيرته النضالية، ولم يكتف بإبقاء جذوة هذه القضية متّقدةً خلال كفاحه ضد النظام البهلوي، بل رسّخها بعد انتصار الثورة الإسلامية كخط أحمر للأمة الإسلامية جمعاء.
نهضة الإمام الخميني في ستينات القرن العشرين: سطوع نجم فلسطين في سماء الكفاح
منذ فجر نهضته المباركة في ستينات القرن العشرين، رفع الإمام الخميني(رحمه الله) لواء قضية فلسطين بوصفها منارةً لمجابهة الظلم ورمزاً للتصدي للاستكبار العالمي، وفي حين كان النظام البهلوي يتهافت، تحت مظلة الرعاية الأمريكية، نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، كان الإمام يشقّ حجب الصمت بكلمات كالسيف، كاشفاً بجرأة عن فظائع الصهاينة في أرض فلسطين السليبة.
ومن المحطات المضيئة في تلك الحقبة المفصلية “انتفاضة الإمام(رحمه الله) ضد قانون الحصانة القضائية عام 1964”، ذلك القانون الذي منح الأمريكيين درعاً من الحصانة في إيران، فقد أطلق الإمام(رحمه الله) في خطابه التاريخي الخالد صيحةً مدويةً، لا تستنكر فقط التدخلات الأمريكية السافرة في إيران، بل تكشف عن جذورها العميقة في مخطط دعم الصهيونية وتقويض أركان العالم الإسلامي، وقد غرست هذه المواقف الجريئة في فكر الإمام وفلسفته النضالية، أسس الكفاح المزدوج ضد طغيان الاستبداد الداخلي وغطرسة الاستكبار العالمي والصهيونية المتغلغلة.
الثورة الإسلامية وانقلاب موازين القوى في المنطقة
لقد شكّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 منعطفاً تاريخياً فاصلاً في مسيرة غرب آسيا، فبعبقرية قائدٍ فذّ، استطاع الإمام الخميني(رحمه الله)، بإرسائه دعائم نظامٍ ينهل من معين الإسلام النقي، أن يحطّم أغلال التبعية ويفكّ قيود الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية عن كاهل إيران، مقدّماً للعالم أنموذجاً فريداً للمقاومة والتحدي في أرجاء المنطقة المضطربة.
وتجلت عظمة رؤية الإمام(رحمه الله) في أولى الخطوات الثورية الجريئة التي تمثلت في “قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني”، وإغلاق أبواب سفارته في طهران، هذا الإجراء الرمزي العميق، أرسل صدى دوى في أرجاء العالم الإسلامي: إن الغدة السرطانية المتمثلة في "إسرائيل" محكوم عليها بالاندثار من صفحة الوجود، وأن تعود أرض فلسطين المقدسة والقدس الشريف إلى أحضان أصحابها الشرعيين، هذا الشعار، الذي ترسّخ لاحقاً كأحد الثوابت الراسخة للجمهورية الإسلامية، جسّد العزم الأكيد والإرادة الصلبة للإمام(رحمه الله) في مجابهة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
وحين اندلعت نيران الحرب المفروضة على إيران من قبل العراق في الـ 22 من سبتمبر/أيلول 1980، هرولت أمريكا وأذنابها في محاولة يائسة لخنق الثورة الإسلامية في مهدها، بيد أن الإمام الخميني(رحمه الله)، بقيادته الحكيمة وبصيرته النافذة، لم يكتف بصدّ محاولات عزل إيران، بل حوَّل محنة الحرب إلى منحةٍ للصحوة الإسلامية ونهضة الأمة.
وظلّ الإمام، طوال سنوات المحنة والنار، يرفع راية فلسطين عالياً، معتبراً مناصرة حركات المقاومة فريضةً على عاتق المسلمين، وجاء تأسيس “فيلق القدس” بتوجيهاته السامية، ليمثّل خطوةً استراتيجيةً بالغة الأهمية في دعم المجاهدين الفلسطينيين ومواجهة المدّ الصهيوني الغاشم، وهذه المبادرة الفذة أرست دعائم “محور المقاومة” الذي تحوّل اليوم إلى قوة ضاربة وشوكة في خاصرة الكيان الإسرائيلي.
الإمام الخميني ووحدة العالم الإسلامي في مجابهة الصهيونية: صرخة الحق في وجه الباطل
ما انفك الإمام الخميني(رحمه الله) يشدّد على ضرورة تلاحم المسلمين وتآزرهم في مواجهة عدوهم المشترك، وقد ابتكر بعبقرية فذّة “يوم القدس العالمي” ليكون منارةً للتضامن الإسلامي ورمزاً للوحدة الجامعة، حيث نطق بكلماته الخالدة التي تتردد أصداؤها عبر الأجيال:
“يوم القدس هو يوم الإسلام… إنه اليوم الذي يتعين فيه على المسلمين قاطبةً أن ينفضوا عنهم غبار الغفلة، ويقفوا في وجه الدخلاء المتربصين”.
هذه المبادرة الملهمة حوّلت قضية فلسطين من شأن عربي محصور، إلى همٍّ عالمي يستوطن أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد استقت العديد من حركات التحرر في أرجاء المعمورة، من معين فكر الإمام(رحمه الله) العذب في كفاحها ضد قوى الاستكبار المتجبرة، وبنفاذ بصيرته وثاقب رؤيته، قوّض الإمام(رحمه الله) دعائم المخططات الأمريكية للهيمنة على غرب آسيا، مبرهناً بالدليل القاطع أن طريق خلاص الأمة الإسلامية، ينحصر في المقاومة الباسلة والاعتصام بحبل الوحدة المتين.
رحيل الإمام وتجذر نهج المقاومة: إرث خالد وفكر متوهج
لبّى الإمام الخميني(رحمه الله) نداء ربه وارتحل إلى الرفيق الأعلى 4 يونيو/حزيران 1989، بيد أن ميراثه النضالي ما زال ينبض بالحياة، متجسّداً في “خطاب المقاومة” الذي أضحى منهجاً راسخاً وفكراً متوهجاً.
في عالمنا المعاصر، تمضي فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وسائر بقاع المنطقة، مستلهمةً من نبع فكر الإمام الصافي، في مجابهة طغيان الهيمنة الأمريكية وغطرسة الاحتلال الصهيوني، وقد بدأت بشائر هذا النهج القويم تترسّخ في وجدان المسلمين بالمجتمعات الإسلامية، كاشفةً زيف الحكام المتسترين بعباءة الإسلام، ومُشكلةً حصناً منيعاً يتصدى للمؤامرات الدنيئة التي يحيكها بعض الزعماء العرب المتخاذلين الساعين حثيثاً لتصفية القضية الفلسطينية واستكمال مسيرة التطبيع المشينة مع الكيان الصهيوني.
ومن جانب آخر، تسرّب خطاب المقاومة حول تحرير فلسطين، إلى شغاف قلوب الشباب المتعطشين للحرية في أصقاع المعمورة، حتى بات يدّوي صداه على مقربة من دهاليز البيت الأبيض وقصور قادة الغرب المتغطرسين، وتشهد الحركات الاحتجاجية المناهضة لجرائم الصهيونية وسياسات الدول الاستكبارية المتواطئة معها، تنامياً مطرداً واتساعاً ملحوظاً يوماً إثر يوم.
واليوم، بعد انقضاء ما يربو على ثلاثة عقود على رحيل الإمام (رحمه الله)، ما برحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بوصفها حاملة راية هذا النهج القويم، متشبثةً بمبادئ الإمام الراسخة، متخذةً من قضية فلسطين درة أولوياتها وجوهر اهتماماتها.