الوقت- أبحرت "سفينة الحرية" في مطلع شهر يونيو 2025 من أحد موانئ البحر المتوسط، حاملة على متنها ناشطين حقوقيين، وأطباء، وشخصيات مدنية من دول متعددة، في خطوة رمزية تهدف إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة منذ سنوات، والذي اشتدت قسوته بعد العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023، وجاءت هذه الخطوة كمبادرة إنسانية تدعو لوقف المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، ولتسليط الضوء على الكارثة الإنسانية التي يعاني منها أكثر من مليوني إنسان في القطاع.
رسالة احتجاج ضد التواطؤ الدولي
تُعد "سفينة الحرية" امتداداً لسلسلة من القوافل البحرية التي حاولت منذ العام 2010 كسر الحصار البحري المفروض على غزة، لكنها هذه المرة جاءت في ظرف أكثر مأساوية، وسط صمت دولي حيال الانتهاكات اليومية بحق سكان القطاع.
المشاركون في الرحلة أكدوا أن تحركهم ليس مجرد شحنة مساعدات، بل هو رسالة سياسية وإنسانية مفادها بأن العالم لا يمكن أن يبقى متفرجاً على التجويع الجماعي، والقصف العشوائي، وانهيار النظام الصحي والتعليمي في غزة.
وقد صرّح أحد المنظمين بأن السفينة لا تحمل فقط مساعدات غذائية وطبية، بل تحمل أيضاً "ضمير العالم" وتُحمّل الحكومات الغربية مسؤولية دعمها غير المشروط لـ"إسرائيل"، وتواطئها في استمرار الحصار والتجويع.
التحركات الإسرائيلية المتوقعة
في ظل السوابق الإسرائيلية في التعامل مع محاولات مماثلة، من المرجح أن تواجه "سفينة الحرية" اعتراضاً من البحرية الإسرائيلية قبل وصولها إلى المياه الإقليمية لغزة، وتجدر الإشارة إلى أن "إسرائيل" تعتبر أي محاولة لكسر الحصار عملاً غير قانوني، رغم أن القانون الدولي لا يعترف بشرعية الحصار البحري على غزة، بل يعتبره نوعاً من العقوبة الجماعية المحظورة.
وقد حذرت وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر قنوات دبلوماسية أنها "لن تسمح لأي سفينة باختراق الحصار"، في حين لم يصدر بعد أي رد فعل رسمي من الأمم المتحدة، ما يزيد من احتمال تكرار سيناريوهات الصدام كما حدث في سفينة "مرمرة" التركية عام 2010.
غزة بين الحصار والمجاعة
يأتي تحرك "سفينة الحرية" في وقت وصلت فيه الأوضاع في غزة إلى مستويات غير مسبوقة من الكارثة، وتشير تقارير منظمات أممية إلى أن أكثر من 80% من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن المستشفيات تعمل بطاقتها الدنيا وسط نقص حاد في الأدوية والمعدات، كما أن المدارس دُمّرت أو تحوّلت إلى ملاجئ، والكهرباء لا تصل إلا لساعات محدودة في اليوم.
وتفيد تقارير حقوقية بأن الحصار الإسرائيلي الممتد منذ عام 2007، قد تطور بعد الحرب الأخيرة إلى حصار شامل يمنع دخول الوقود، ومواد البناء، وحتى الكتب المدرسية، ووفقاً لمنظمة "أطباء بلا حدود"، فإن عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد قد تضاعف ثلاث مرات خلال الأشهر الستة الماضية.
البُعد الرمزي والتحفيزي للمبادرة
ورغم أن السفينة قد لا تصل فعلياً إلى غزة، إلا أن تحركها يبعث برسائل متعددة، أولها، أن الحصار ليس قدراً مفروضاً، بل خياراً سياسياً يمكن تحديه، وثانيها، أن القضية الفلسطينية لم تُدفن كما تأمل بعض القوى الدولية، بل ما زالت قادرة على تحريك الضمير العالمي، وثالثها، أن هناك إمكانية لإحياء أدوات المقاومة المدنية والسلمية، بعيداً عن السلاح والصراعات المباشرة.
وقد شهدت عدة عواصم أوروبية تظاهرات موازية لدعم السفينة، تطالب حكوماتها بالضغط على "إسرائيل" لفتح الممرات الإنسانية، وتقديم الدعم لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
هل تنجح سفينة الحرية في تحريك المياه الراكدة؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه مراقبون هو: هل ستُحدث هذه السفينة فرقاً حقيقياً؟ والإجابة ليست بسيطة، من جهة، قد لا تغير موازين القوى، لكنها قد تسهم في إعادة تشكيل الخطاب الدولي، وتعزيز الوعي الشعبي العالمي بالقضية، ومن جهة أخرى، فإن رد الفعل الإسرائيلي على السفينة سواء كان اعتراضاً عسكرياً أو تجاهلاً سيعكس مدى توتر تل أبيب تجاه أي محاولة لفضح ممارساتها.
والأهم من ذلك، أن مثل هذه المبادرات، حتى وإن بدت رمزية، قد تفتح الباب أمام أشكال جديدة من التضامن العالمي، وتضع الحكومات الغربية، ولا سيما الأوروبية، في موقف محرج أمام شعوبها التي بدأت تعبر عن رفضها للسياسات الداعمة للاحتلال.
دور الإعلام والرقابة المفروضة على الحقيقة
من اللافت أن تحرك "سفينة الحرية" لم يلقَ تغطية واسعة في الإعلام الدولي، رغم رمزيته الإنسانية الواضحة، هذا التعتيم يعكس سياسة إعلامية مزدوجة المعايير، حيث يتم تجاهل المبادرات التي تفضح الانتهاكات الإسرائيلية أو تكشف هشاشة الموقف الغربي.
في المقابل، تبذل المنصات الإعلامية الرسمية جهوداً لتسليط الضوء على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بينما تتجاهل معاناة أكثر من مليون طفل فلسطيني تحت القصف والحصار، هذا التجاهل ليس اعتباطياً، بل جزء من منظومة أكبر تهدف إلى تطبيع الصمت، وشيطنة كل من يتضامن مع الضحايا، أو يحاول كسر حاجز العزلة المفروض على القطاع.
الحصار ليس قانوناً… بل جريمة مستمرة
من وجهة نظر القانون الدولي، فإن الحصار المفروض على غزة يُعد شكلاً من أشكال العقوبة الجماعية المحظورة بموجب اتفاقيات جنيف، وقد سبق أن وصفت منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" الحصار بأنه "غير قانوني وغير أخلاقي"، ويمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومع ذلك، تستمر دول كبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لـ"إسرائيل" لمواصلة هذا الحصار، ما يشجع على الإفلات من العقاب.
في النهاية يمكن القول إن، "سفينة الحرية" لا تأتي فقط لكسر الحصار مادياً، بل لكسر صمته القانوني أيضاً، فهي تطرح من جديد سؤالاً جوهرياً: لماذا يُترك شعب كامل ليواجه الجوع والدمار والعزلة في عالم يتغنى بالقيم الإنسانية؟ والإجابة تكمن في أن الصمت على الجريمة، حين يُشرعن ويُغلف بلغة القانون، يصبح جريمة مضاعفة.