الوقت - بعد خمسة أشهر من الترقب والانتظار، توافدت الجموع من كل مناطق لبنان وبلدان المنطقة إلى بيروت، لتحتفي بالأجساد الطاهرة لشهداء المقاومة، السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، في وداعٍ يليق بمقامهم السامي.
اليوم، ارتدت بيروت حلةً من الحزن والجلال، حيث جرى تشييع أجساد خمسة وثلاثين شهيداً من شهداء المقاومة، يتقدمهم السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، والسيد هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي للحركة. حُملت الأجساد الطاهرة على أكتاف مئات الآلاف من عشاق سيد المقاومة، وسط دموعٍ صادقة من قلوبٍ عامرة بالإيمان والوفاء، ليكتبوا بذلك صفحاتٍ جديدة في سجل المقاومة الخالد.
على الرغم من أن موعد بدء المراسم كان التاسعة صباحاً، إلا أن جموع المحبين للقائد الراحل قد توافدت قبل ساعاتٍ طويلة، وامتلأت الساحات المحيطة بملعب "كميل شمعون" بحشودٍ غفيرة، كأنها بحرٌ زاخر بالعزيمة والإصرار.
كانت المدينة الرياضية "كميل شمعون" قد امتلأت بالحاضرين منذ الساعة السادسة صباحاً، حيث قضى بعضهم الليل تحت جنح السماء، منتظرين بفارغ الصبر لحظة الوداع. وقبل ساعةٍ واحدة من فتح أبواب المجمع الرياضي، كانت كل الأماكن المخصصة للمشاركين في التشييع قد امتلأت بالكامل.
في الساعات الأولى من الفجر، كانت شوارع بيروت تعجّ بالوفود القادمة من كل أرجاء لبنان، حيث توافد مئات الآلاف بسياراتهم الخاصة إلى مكان تشييع الشهداء، ليؤدوا واجب العزاء والوفاء لشهداء المقاومة.
من الجنوب اللبناني إلى ضواحي بيروت، ومن المناطق ذات الأغلبية الشيعية إلى سائر أنحاء البلاد، خرج الناس يداً بيد، في وحدةٍ قلّ نظيرها، ليملؤوا الشوارع، مردّدين هتافات "لبيك يا حسين" و"الله أكبر"، التي ارتفعت كالرعد في سماء المدينة.
كانت كل الطرق المؤدية إلى المدينة الرياضية، تعجّ بمسيرات شعبية شارك فيها النساء والأطفال والرجال والشيوخ، يحملون صور الشهداء وأعلام حزب الله، فبدت المدينة وكأنها لوحة واحدة، لون واحد، كأن روح حزب الله قد تسللت إلى قلوب أبناء لبنان وأجسادهم.
ونظراً لاتساع رقعة الحشود، تم نصب شاشات عملاقة على طول الطرق المؤدية إلى المدينة الرياضية، ليتمكن المشاركون من متابعة مراسم التشييع من أماكنهم.
وقد وُصفت الحشود بأنها ضخمة بما يتجاوز الوصف، حتى أن مراسل قناة الميادين وصف مشهد تدفق الناس إلى مكان المراسم والشوارع المحيطة، بأنه "زحفٌ بشري" قادم من كل الجهات للمشاركة في تشييع الشهداء.
ووفقاً للتقديرات، فإن المدينة الرياضية التي استضافت المراسم، تتسع لأكثر من 23 ألف مقعد في الداخل، و55 ألف مقعد في الساحات الخارجية، حيث خُصص 35 ألف مقعد للرجال في الجهة المقابلة للمدينة الرياضية، و20 ألف مقعد في قسم خاص بالنساء.
كما تم بثّ النشيد الوطني اللبناني وأناشيد المقاومة عبر مكبرات الصوت داخل الاستاد والشوارع المحيطة، لتعمّ الأجواء بروح العزّة والوفاء.
کذلك، فإن لوحات الشهيد نصر الله وصفي الدين کانت تزيّن جدران المدينة الرياضية والطرق المؤدية إلى مكان التشييع، وقد أضفت على المدينة روح وهوية المقاومة.
لقد سار جُثمان الشهداء في موكبٍ مهيب عبر شوارع المدينة، يرافقه صدور الهتافات والأناشيد التي تعبق بروح العزّة والتضحية. وفي مراسم التشييع، ألقى السيد حسن فضل الله، ممثل كتلة المقاومة في البرلمان اللبناني، كلمةً أكد فيها: أن "قرار حزب الله هو المضي قدماً في طريق المقاومة، وأن تكون هذه المقاومة حاضرةً في كل ساحة وميدان".
بدأت المراسم الرسمية عند الساعة الواحدة بعد الظهر بالتوقيت المحلي، حيث دخل نعش الشهيدين السيد نصر الله والسيد صفي الدين بمركباتٍ خاصة، وتلا ذلك كلمة للشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله. ثم انطلق موكب التشييع نحو مكان دفن الشهيد السيد نصر الله في ضواحي جنوب بيروت. دُفن الشهداء بعد إقامة الصلاة في حديقة خاصة دُمّرت سابقاً بغارات الطائرات الإسرائيلية. كما تم تشييع الشهيد السيد صفي الدين يوم الاثنين في مسقط رأسه، دير قانون النهر في جنوب لبنان.
لقد سعى جميع اللبنانيين، كلٌ بطريقته، لأداء واجب الوفاء تجاه شهداء المقاومة، وقدّموا مشاهدَ فريدةً من الوحدة والتلاحم. فبعضهم انضمّ إلى فرق التنظيم لتسهيل إجراءات المراسم، بينما تطوّع آخرون كنظّافين ليجمعوا النفايات من طريق الموكب، كي لا تعيق حركة المشاركين.
من جهة أخرى، تم نشر وحدات من الجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي لتأمين سلامة الحضور، كما اتخذت قوات حزب الله إجراءات أمنية مشدّدة في المناطق المحيطة بموقع التشييع.
تجديد العهد مع مبادئ الشهيد نصر الله
لم يكن تشييع جثمان الشهداء مجرد حشودٍ غفيرة تزحف في الشوارع، بل كان وداعاً من قلوبٍ تنزف ألماً وحزناً لشهدائها. جاء أبناء لبنان من كل حدب وصوب ليُعلنوا وفاءهم لقائدهم الراحل، وليؤكدوا أنهم عاهدوا أنفسهم على الالتزام بمبادئه الخالدة، وأن يظلوا أوفياء لمسيرته حتى النهاية.
ووفقاً لتقرير "النمار"، قال فتىً كان يرتجف من قسوة البرد: "جئت لأقترب من موقع التشييع، لأرى هذا المعلم الروحي الذي أضاء دربنا." وأضافت إحدى السيدات الحاضرات في المراسم، وهي تتحدث عن شهداء المقاومة: "نحن نؤدي حقنا في العزاء، فالحزن حقٌ لنا، وواجبٌ علينا. لقد وقفنا صامدين حتى اليوم، ومن الغد سنكون أكثر صلابةً مما يتصور الآخرون، وسيزداد بغضنا للعدو، وستشتد إرادتنا في هزيمته".
ومن بين المشاهد التي لا تُنسى في هذه المراسم، كان الحضور الكثيف واللافت لمواطنين ومسؤولين من دول أخرى، الذين جاءوا ليشاركوا في هذه الملحمة العظيمة.
وقدّرت شبكة "العالم" عدد الأجانب المشاركين في هذه المراسم بنصف مليون شخص، قدموا إلى بيروت منذ يوم السبت للمشاركة في تشييع شهداء المقاومة. وأكدت الشبكة أن مواطنين من أمريكا الجنوبية، الذين زاروا لبنان لأول مرة، يشاركون أيضاً في هذه المراسم.
ووفقاً للجنة تنظيم مراسم التشييع، فقد حضرت وفود ومشاركون من حوالي 79 دولة. ومن إيران، شارك محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس الشورى(البرلمان)، وعباس عراقجي، وزير الخارجية، على مستوى رفيع، كما حضر ممثلون عن كتل عراقية مختلفة وأحزاب أخرى.
تغطية إعلامية واسعة للمراسم على المستويين الإقليمي والدولي
نظراً لأن لبنان لم يشهد من قبل تشييعاً بهذا الحجم والعظمة، فقد توافدت مئات الوسائل الإعلامية من داخل لبنان وخارجه لتغطية هذا الحدث التاريخي الفريد، وتسجيل لحظاته المهيبة ونقلها إلى العالم أجمع.
في هذه المراسم، حضر أكثر من 450 وسيلة إعلامية من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك وفود صحفية من آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا، حيث قامت بإنتاج ونشر تقارير مفصلة عن هذا الحدث. ويُقال إن عدد الصحفيين المشاركين في التغطية الميدانية تجاوز 600 صحفي، موزعين بين المدينة الرياضية، مكان التشييع، وحتى موقع الدفن.
قام مركز الإعلام التابع للجنة العليا المنظمة للمراسم، بتجهيز قاعة مجهزة بكل ما يلزم الصحفيين، بالإضافة إلى أرشيف وحساب خاص باسم الشهيد نصر الله، لتمكين وسائل الإعلام من استخدام الصور ومقاطع الفيديو المتعلقة بالمراسم.
يُعتبر هذا المركز بمثابة نقطة التقاء للوفود الإعلامية من الدول العربية ودول المنطقة، بالإضافة إلى الدول الأوروبية. ومن المقرر أن يعكس هذا المركز الإعلامي، من خلال تجهيزاته المهنية وكاميراته المتطورة، مشاعر الجماهير الحاضرة إلى العالم بأسره.
تشييعٌ يخلَّد في الذاكرة
إن تشييع جثمان الشهيد السيد حسن نصر الله، سيظل أحد أبهى المراسم وأعظمها حضوراً في تاريخ لبنان المعاصر. فقد توافدت الجماهير التي وقفت دوماً إلى جانبه، في أحلك الأيام وأزهى الانتصارات، لتودعه بدموعٍ غزيرة وهتافاتٍ ملحمية، في وداعٍ تاريخي لقائدها المحبوب.
لأبناء لبنان، لم تكن شهادة حسن نصر الله مجرد فقدان لقائد، بل فقدان رمزٍ عظيم. فقد كان بالنسبة لكثيرين في لبنان والمنطقة، رمزاً للعزة والشجاعة والثبات في مواجهة الظلم والاستبداد.
في هذا التشييع، ما يغلي في قلوب الناس هو ذلك الشعور العميق، وتلك القلوب الممزقة بين الحزن والفخر. هذه المراسم هي مرثيةٌ للماضي، وتذكيرٌ بفصلٍ من فصول النضال الذي تحمّل نصر الله عبء قيادته بمفرده.
في هذه اللحظات، عيون الأمهات والآباء الذين فقدوا أبناءهم في سبيل مبادئه، ستظل شاهدةً على حبٍّ لا ينضب من الأمة له.
إن تشييع السيد نصر الله يعيد إلى الأذهان ذكريات آلاف المجاهدين والمقاتلين الذين خاضوا المعارك إلى جانبه. هذه المراسم ستتحول إلى رواياتٍ عن حروب الـ33 يوماً مع الكيان الصهيوني، عن الشجاعات التي سُطِّرت في جبال وسهول جنوب لبنان، وعن المقاومة الفريدة التي كانت، بالنسبة للكثيرين، أكثر من مجرد حرب، بل رمزاً للصمود والإباء.
بالنسبة لمن وقفوا إلى جانب السيد نصر الله، هذا التشييع ليس مجرد وداع لقائد، بل هو وداعٌ لفصلٍ من فصول التاريخ المشرّف. ورغم أن فقدان نصر الله سيترك جرحاً غائراً في قلوب الكثيرين، إلا أن هذه المراسم ستوصل رسالةً عظيمةً للأجيال القادمة. رسالةٌ عن التضحية، وعن المقاومة في وجه الظلم، وعن القيم التي يجب أن تظل حيةً في مواجهة التحديات العالمية.
ستشهد الأجيال القادمة في لبنان والمنطقة، كيف استطاع شخصٌ واحد، بإيمانه وإرادته الصلبة، أن يغيّر حدود بلدٍ بأكمله، بل وأن يزرع الخوف في قلب الإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني، خوفاً ما زال قائماً حتى اليوم.
إن تشييع السيد حسن نصر الله ليس مجرد نهاية لفصلٍ من التاريخ، بل هو بدايةٌ لعصرٍ جديد في مسيرة المقاومة. هذه المراسم هي عرضٌ لأمةٍ تعشق قائداً قادها من جراح الحرب إلى عتبات النصر؛ واللحظات التي سيذكر فيها أبناء لبنان والمنطقة نصر الله، لن تكون لحظات حزنٍ وألم فحسب، بل ستكون لحظات فخرٍ ووفاءٍ لرجلٍ سيظلّ خالداً في تاريخ المنطقة إلى الأبد.