الوقت- في الوقت الذي تشهد فيه السياسة الأمريكية تراجعاً على صعيد منطقة الشرق الأوسط، يتحول العالم من مشهدٍ كان يحكمه القطب الواحد، الى عالمٍ متعدد الأقطاب. ولذلك تسارع أمريكا الى ضمان هيبتها عبر إعلانها صراحةً أنها لم تعد تهتم بشؤون منطقة الشرق الأوسط، بل أصبح اهتمامها أكثر بمنطقة جنوب شرق آسيا. ولعل ذلك يعتبر مبرراً تستخدمه أمريكا للتغطية على فشلها في المنطقة. وهنا تنظر أمريكا بقلقٍ متزايد لما يمكن وصفه بتنامي النفوذ الصيني والروسي في منطقة جنوب شرق آسيا. فكيف يمكن وصف المشهد الجيوسياسي هناك لكلٍ من هذه الدول؟ وما هي دلالاته الإستراتيجية؟
أولاً: القطب الصيني الحاضر بقوة
تحاول أمريكا من خلال بناء علاقاتٍ سياسية قوية مع كلٍ من فيتنام والفيليبين وتايوان واليابان، استغلال علاقات هذه الدول المتوترة مع الصين. لذلك وفي إطار سياستها الجديدة تلك، تحاول واشنطن كسب ود كل البلدان بلا استثناء، وعدم ترك أي مجال لها للاقتراب من الصين. وهو الأمر الذي دفعها في أكتوبر 2014 إلى إلغاء حظر تصدير الأسلحة لفيتنام، عدو الأمس وصديق اليوم، وهو قرار قالت رسمياً إنه استجابة لتحسن في أحوال حقوق الإنسان بالبلاد، لكن الجميع يعلم أنه استجابة لمصالح مشتركة تجمع البلدين منذ زيادة التوتر بين هانوي وبكين. فالصين، تتجه نحو تعزيز وجودها العسكري البحري في المنطقة منذ دخول رئيسها شي جينبينغ إلى السلطة .
ولعل النمو الاقتصادي الذي شهدته الصين، هو الذي دفعها كغيرها من الدول، الى تعزيز القدرات العسكرية، والاهتمام بتطوير المؤسسة العسكرية. ولذلك فإن الدور العالمي للصين لم يقتصر على الاقتصاد، والاهتمام بحماية الموارد الطبيعية المهمة لبقاء ونمو عجلة الاقتصاد الصيني، بل سعت أيضاً الى بناء ثقلٍ تدريجيٍ في المنطقة. مما أعاد صياغة الأوضاع القائمة على الأرض. فالبحر الأصفر وبحري شرق وجنوب الصين، تحولا اليوم إلى نطاق نفوذ لها. خاصة وأن هذه البحار غنية بالموارد الطبيعية، وتضم أغلب الجزر المتنازع عليها بين الصين ودول آسيوية مختلفة. والسبب الإستراتيجي في الاهتمام بتلك البحار الشرقية تحديدًا، هو حماية الصين لمساحتها الشاسعة، والتي قد تقع فريسة لأي هجوم أمريكي من قواعد أمريكية موجودة في اليابان والفليبين. كما أنه بالنظر لكونها قطباً بارزاً على الصعيد العالمي، يزداد اهتمام الصين بتعديل أي خلل استراتيجي مع أمريكا، حتى لا يُتاح للأخيرة الضغط عليها، وهو ما يعني ضرورة توسيع نطاق نفوذها البحري لإبعاد واشنطن عنها قدر المستطاع .
في المقابل لم تكتف أمريكا بالمشاهدة، وهي الدولة المهتمة بمنطقة شرق آسيا والهادي أكثر من أي وقت مضى نظراً لأهميتها المتزايدة للاقتصاد العالمي، وقربها الجغرافي من أمريكا الشمالية. لذلك وفي نوفمبر 2011، وأثناء حديثه للبرلمان الأسترالي، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما لأول مرة وبشكل رسمي، أن بلاده ستوجه اهتمامها لمنطقة آسيا والهادي على حساب الشرق الأوسط. ولعل السياسة الجديدة التي قصدها أوباما هي ما يسمى بسياسة "الارتكاز الجديد". وهي سياسة تعني تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في آسيا والهادي، وتوطيد العلاقات العسكرية مع حلفاء أمريكا، وزيادة صادراتها العسكرية إلى الدول الآسيوية، وكذلك برامج التدريب العسكري، والمناورات المشتركة مع بلدان المنطقة، وهو ارتكاز سيأتي على حساب تخفيف التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا بشكل رئيسي، لا سيما أن تلك المناطق تتضائل أهميتها الاقتصادية مقارنة بآسيا والهادي. وهنا اتخذت واشنطن خطوات لتأسيس وتحديث قواعدها العسكرية في المنطقة، أبرزها في جزيرة جيجو في كوريا الجنوبية، والتي تقع على بعد 500 كيلومتر من الصين، والتي سيوضع فيها صواريخ باليستية طويلة المدى تستطيع إصابة أهداف جنوب شرقي الصين، وثلاث مدمرات بحرية وحاملة طائرات، وكذلك في قاعدة جزيرة أوكيناوا اليابانية .
ثانياً: روسيا العدو الند لأمريكا
ومن جانب آخر يعتبر المارد الروسي والقطب الند لأمريكا عالمياً، أحد الأطراف التي تزيد قلق أمريكا في تلك المنطقة. فهرب أمريكا بعد فشلها في الشرق الأوسط الى منطقة جنوب شرق آسيا، جعلها تصطدم باللاعب الروسي الذي أصبح من الصعب إيقافه، في ظل صموده أمام الأزمة الاوكرانية، وعلاقته القوية بإيران، الدولة التي فرضت قواعد جديدة على الجميع. لذلك يواصل المسؤولون الأمريكيون حملة التهويل ضد روسيا. فأخيراً كان لقائد القوات المسلحة الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ إسهام في هذه الحملة. حيث أفادت صحيفة واشنطن تايمز أن الأميرال ساموئيل لوكلير، قائد القوات المسلحة الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ، أخبر أعضاء لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي بأن روسيا كثفت نشاطها العسكري في الأشهر القليلة الماضية والذي وصل مؤخراً إلى مستوياته خلال الحرب الباردة. وتدرك أمريكا ان الخطر يكمن في سعي روسيا لاستعادة مواقعها العسكرية والسياسية في منطقة المحيط الهادئ. وهو ما يشير له تزايد حجم المناورات العسكرية في المنطقة. كما تزيد موسكو نفوذها في منطقة القطب الشمالي وشمال شرق آسيا وجنوب شرق آسيا. كما وتسعى روسيا لتعزيز علاقتها الاقتصادية مع دول المنطقة تلك، وإيجاد أسواق بديلة عن الغرب .
ثالثاً: اليابان رهان أمريكا الضعيف
هنا لا بد من الإشارة الى دور اليابان. فلا شك أن رئيس وزراء اليابان المنتصر مؤخراً في الإنتخابات البرلمانية، شينزو أبِه، ومن خلفه اليمين القومي بشكل عام، يعتقد بأن قيود الحرب العالمية الثانية لم تعد مفيدة لليابان. وأنها بجانب تعزيزها للتحالف مع أمريكا، يجب أن تُحيي قوتها العسكرية، وتعيد مراجعة الدستور بما يسمح لها بتفعيل قوتها لحماية بلدان أخرى في المنطقة بوجه أي مخاطر تتعرض لها. لذلك قام رئيس الوزراء الياباني، بتعزيز العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا، وزيادة نصيبها من المعونة العسكرية اليابانية، وكذلك بتفعيل جزئي لدور القوات اليابانية، حيث أرسلت مراكب حراسة لفيتنام والفليبين وإندونيسيا، وأرخت من القيود القانونية المفروضة على تصديرها للسلاح، ووطدت من شراكتها الاستراتيجية مع الهند وأستراليا في حلقة واضحة ترسمها حول خطوط تمدد النفوذ الصيني .
إذاً تقف أمريكا أمام دولٍ أصبحت ترسي واقعاً جديداً. فأمريكا الهاربة من الشرق الأوسط، تصطدم اليوم بروسيا الدولة المتنامية، والصين القوة الاقتصادية. وتراهن من جهةٍ أخرى على اليابان التي تشعر بأنها عاجزة، وتسعى لبناء قوتها. الأمر الذي يؤكد مقولة إن الزمن الذي تحكم فيه أمريكا قد تغير، ولعل الأيام المقبلة ستكون شاهدةً على ذلك .