الوقت- إنه زمن دولة ولاية الفقيه النووية. هكذا يمكن إختصار المشهد الجديد، الذي ساد العالم منذ ساعاتٍ فقط. ليس في حلمٍ، كلُّ من آمن بالرؤية الإستراتيجية الإيرانية. فالواقع الذي أصبح اليوم أمراً نافذاً، ليس بجديدٍ على أولئك الذين كانوا يُدركون جيداً أن الرجل الذي أحدث أول منعطفٍ في التاريخ الإسلامي، وحقق حلم الأنبياء والمرسلين، عنيت به روح الله الموسوي الخميني(قدسره)، أسس دولةً كان يعرف أن أرضيتها ستنبت في المستقبل، عزاً وفخراً لجميع الأحرار والمستضعفين في العالم. وهذا الذي كان مُستقبلاً للذين عاشوا في الماضي، هو اليوم حاضرنا الذي نقطف منه نحن، ذلك العز والفخر العظيم. لكن هذا الإنجاز الذي جاء بعد 12 عاماً من المفاوضات، لم يكن إلا حصيلة إتقان إيران، لفن اللعبة السياسية، في زمنٍ لا مكان فيه إلا للأقوياء. فكيف انتزعت إيران حقها النووي؟
إعترف الجميع بإيران كقوةٍ نوويةٍ إقليمية، وانتهت سياسة الإحتواء تجاهها، وأصبح برنامجها النووي الذي كان حقاً لها، برنامجاً شرعياً بعد فشل أمريكا والغرب في تفكيكه. هذا باختصار ما تم الإتفاق عليه بين إيران ودول "5+1". فالإتفاق الذي وُصف بأنه تاريخي، هو كذلك حقيقةً. ولذلك سارع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ووزيرة خارجية الإتحاد الأوروبي فردريكا موغيريني، للتسابق في إعلانه. وفي قراءةٍ تحليلية لهذا الإنجاز الإيراني، يجب التوقف عند الآتي :
- قد يكون الطرفان الأمريكي والإيراني، وبعد 16 جولة و 18 شهراً من المحادثات، قدما تنازلاتٍ سياسية وتقنية. فيما كانت القوى الأخرى تعمل في خدمة المتفاوض الأمريكي. مما يعني أن جميع الأطراف كانت في الحقيقة تعمل معاً مقابل إيران التي عملت وحدها. وصحيحٌ أن الإتفاق الذي تم التوصل له سمي بـ "إتفاق إطار"، إلا أنه لم يكن لينضج لولا أن توصل الأمريكيون بأنهم لن يستطيعوا الحصول على تنازلاتٍ إيرانية، أكبر مما حصلوا عليه حتى الآن .
- صحيحٌ أن الإتفاق نص على إعادة فرض العقوبات على إيران إذا ما أخلّت بتعهداتها، لكن لم يعد الأمريكي قادراً على فعل ذلك كيفما يشاء. فقد نجح الإيرانيون في جعل عودة العقوبات عليهم، أمراً يحتاج للرجوع إلى مجلس الأمن، لا تلقائياً. مما يعني أن الطرف الإيراني إنتزع من واشنطن ورقة ضغطٍ كانت أمريكا تستخدمها ساعة تشاء .
- حصلت إيران على إعتراف واضح بحقها بالتخصيب، بنسبة 3.5 في المئة. وهذه النسبة كافية جداً للإبقاء على البرنامج النووي مما أكسب الإيرانيين إعترافاً دولياً بحقهم بتخصيب اليورانيوم .
- كما سيقوم الأوروبيون والأمريكيون برفع العقوبات المتصلة بالملف النووي. مما سيعيد لإيران حق التعامل بنظام "السويفت" والتحويلات المالية والتأمين على الناقلات النفطية والتجارة البحرية العامة، مما سينعش الإقتصاد الإيراني. في حين خسرت إيران 200 مليار دولار جراء العقوبات في 3 سنوات .
-إن رفع العقوبات هو إنجاز كبير لإيران. فهذا بحد ذاته إعترافٌ أمريكيٌ واضح وعلني بأن لا العقوبات، ولا انسحاب إيران من المفاوضات، كان سيوقف البرنامج النووي الإيراني. وهذا يعتبر مثال آخر على الرضوخ الأمريكي للطرف الإيراني .
- لقد شكلت مرحلة المفاوضات النهائية صدمةً بالنسبة للعالم. فالرئيس الأمريكي كان يتحدث بلغة الإيرانيين. وهذا ما جعل الموقف الأمريكي ضعيفاً، بحيث كان الرئيس أوباما، ساعياً لكسب رضا الدبلوماسية الإيرانية. وهذا ما لم يحدث في تاريخ أمريكا الدبلوماسي. فالواضح وما رآه العالم بأسره أن إيران أوصلت الأمريكيين الى مرحلة السعي للإتفاق أكثر منهم. وبسبب طول البال الإيراني، ظهر ذلك الإهتمام الأمريكي في العلن .
- إقتصر التفاهم على البرنامج النووي، من دون أي ربط بالسياسة الخارجية لإيران ولا ببرنامجها التسليحي ولا حتى بالشؤون الداخلية. وهذا بحد ذاته إنجازٌ للطرف الإيراني الذي حدد منذ البداية إطار المحادثات. في الوقت الذي سعت فيه أمريكا دوماً لجعل المحادثات ورقة ضغطٍ على الطرف الإيراني، في كافة الملفات الأخرى .
إن كل المحادثات والمفاوضات التي حصلت في التاريخ، كانت تخرج دوماً برضا الطرفين وبالتساوي. لكن العقل الإيراني، قدم نموذجاً جديداً، لكيفية التفاوض ونزع الحقوق والخروج بأكثر الإنجازات وأقل التنازلات. فمن ينظر الى الإتفاق من الناحية التقنية، يجد أن إيران ربحت في كل شيء. وذلك لأنها حققت ما وضعته من أهداف. أما من ينظر في المقابل الى الطرف الأمريكي، فصحيحٌ أنه إستطاع تخفيض نسبة التخصيب، وهو إنجاز خجول له، لكنه لم يستطع فرض شروطٍ كان دوماً يسعى لإستغلال الملف النووي بهدف تنفيذها. وهو ما يعتبر أيضاً إنجازاً لإيران من الناحية الشكلية العملية. وهكذا رسخت إيران اليوم، دورها الذي طالما سعت له منذ قيام الجمهورية الإسلامية. إذاً، لقد نجح العقل الإيراني، بعد العمل الدؤوب الذي جعل من إيران دولة الإنجازات العلمية، وبعد الصبر الطويل الذي أفقد الآخرين هدوءهم. وقد حل اليوم الذي تحدث عنه الإمام الخميني(قدسره) منذ زمن طويلٍ قائلاً وبثقة حينها: "سيأتي اليوم الذي ترفعون رؤوسكم عالية في وجه الإستكبار والشيطان الأكبر ".