لا شك أن حذو الدول نحو تحقيق أهدافها على الصعيد الخارجي، يُعتبر من الأولويات لدى صُنَّاع القرار في هذه الدول. لكن المشكلة تُصبح أكثر تعقيداً، مع سلوك الدولة خياراتٍ تضرب هيبتها على الصعيد الخارجي. وهو الأمر الذي باتت تركيا ضحيته، خصوصاً أنها في الواقع تستحق أن تلعب دوراً مؤثراً كبلدٍ يتمتع بموقعٍ مُميز وجغرافيا سياسية مهمة. وهو الأمر الذي يجعلنا ومن باب الإيمان بأهمية الدور التركي، نطرح مراجعة موضوعية لهذا الدور، مع توجيه بعض النصائح.
لماذا الغرق في الإعتذارات والتراجعات؟
تُعتبر هيبة السياسة الخارجية من أهم العوامل التي تساهم في نجاح العلاقات الدولية لأي بلد. لكن الرئيس التركي خاض العديد من المغامرات التي أجبرته على التراجع، وبالتالي جعلت هيبة تركيا أمام الخارج مُهددة. في حين يمكن للسياسة الخارجية لتركيا أن تكون داعمة لصالح دورها ودور الدول المحيطة. وهنا نُشير للتالي:
- بعد ساعات قليلة من كلامه حول عملية درع الفرات وأنها تهدف إلى الإطاحة بحكم الرئيس السوري بشار الأسد، تراجع أردوغان ليوضح أن العملية في الشمال السوري لا تستهدف شخصاً أو دولة بل تستهدف الإرهابيين وتدعم الحرب عليهم.
- منذ فترة ليست بطويلة، كان أردوغان نفسه يُصرُّ على رفض الإعتذار لموسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية. لكنه عاد ورضخ للإعتذار كمدخلٍ ضروريٍ للمضي في أي سياسة خارجية، وهو ما كان واضحاً منذ البداية.
إعتذاره الأخير جاء بعد التصعيد الروسي تجاه أنقرة بأن هناك خطوطاً حمراء من غير المسموح تجاوزها في التعاطي مع الدولة والنظام السوري. أما اعتذاره الأول فحصل بعد الإنقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا، والحديث عن دورٍ لأمريكا وتغطيتها لفتح الله غولن.
وهنا نحاول القول بأن أخذ تركيا نحو الرهانات التي قد لا يحتملها الواقع والدور التركي، يضع السياسة الخارجية في خطر. في حين يمكن ومن خلال التنسيق مع الدول المعنية بالأزمات الإقليمية، والتي لها دور فاعل ومؤثر، أن تقوم تركيا بالخطوة الأولى نحو التحوُّل في السياسة الخارجية إيجاباً.
لماذا الفشل ثم الفشل؟!
عادةً ما يكون تراجع الدول عن مواقفها، أمراً يتم أخذه بالحسبان من قِبَل الدولة، وذلك لأسبابٍ إعتبارية ومعنوية. في حين يُمكن لحاظ أن الرئيس التركي، لم يلتفت لسياسته الخارجية وما ألحقته بضررٍ على تركيا والتي يمكن أن تكون دولة تتمتع بدور كبير في حلِّ الأزمة السورية تحديداً، وذلك لأسباب تتعلق بالدور التركي في الأزمة. وهنا نقول التالي:
أولاً: لا بد من الأخذ بعين الإعتبار حق تركيا في الدفاع عن أمنها القومي، وهو ما يمكن أن يتعلق بموقفها تجاه بعض الأطراف الساعية للإنفصال. لكن تطبيق أي سياسة قد تؤثر على مصالح الآخرين أو مصالح الدول، يجب أن تتمتع بحذر شديد لا يتوافق مع التصلُّب في المواقف وإطلاق التصريحات ذات السقف العالي.
ثانياً: إن الرهان على الغرب، كطرفٍ داعم أو حليف، أثبت في أكثر من مناسبة خطأه. بل أثبت عدم جدواه. وهو الأمر الذي يبدو أن تركيا لم تقتنع به حتى الآن. فيما نجد أن التعاطي الأوروبي مع تركيا لا ينبع من مبدأ الإحترام بقدر ما تعتريه نكهة المصلحة. وهو الأمر الواضح في تعاطي الغرب مع مسألة إنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي، فيما يُعتبر السلوك الأمريكي في التعاطي مع تركيا، واضح، ولم يرقَ يوماً لمستوى قواعد الشراكة بين الحليفين مع لحاظ أسلوب واشنطن البراغماتي.
ثالثاً: فيما يخص الأزمة السورية، اعتقد الرئيس التركي أن الغرب بأسره سيُراهن عليه. وهو الأمر الذي دفعه للتشدًّد في مواقف معينة، ورفع السقف لدرجة لم يلجأ لها الغرب خصوصاً في التعاطي مع موسكو ودمشق. حيث قام بخطوات عديدة، كالإمعان في دعم الجماعات الإرهابية، والمضي في الرهان على إسقاط الرئيس الأسد وصولاً الى إسقاط الطائرة الروسية والحشد لمعركة مدينة الباب مؤخراً. وهو الأمر الذي جعل السياسة الخارجية التركية بحد ذاتها ضحية التجاذبات في الميدان السوري بين الأطراف المتحاربة.
تركيا اليوم: القدرة على التأثير إقليمياً؟!
لا شك أنه وعلى الرغم من التناقضات التي تعتري الأزمة السورية، والحاجة لفهمٍ عميقٍ لواقع الأطراف، للوصول الى إمكانية تحديد دورها، يمكن القول وبيقيين أن تركيا تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً، على الصعيد المتعلق بالأزمة السورية، ما يمكن أن يكون بداية نحو تغيُّرٍ جوهري ونوعي في السياسة الخارجية لأنقرة. وهنا نُشير للتالي:
- إن الواقع الحالي بات واضح المعالم لجهة وضوح عودة النظام الى سيطرته على أغلب الجغرافيا السورية المهمة. وهو الأمر الذي يُعتبر فرصة للرضوخ الإيجابي من قِبل تركيا، لواقع دولةٍ سورية يحكمها الرئيس بشار الأسد.
- إن النتائج التي تُثبت تراجع وضع الجماعات الإرهابية في الميدان السوري، يجعل من الضروري قيام أنقرة بالضغط على الأطراف التي تُديرها. وذلك تسريعاً لنتائج باتت واضحة، ومنعاً لمزيد من سفك الدماء في الميدان السوري.
- بات واضحاً أن الأطراف الدولية روسيا وإيران، يتمتعان بالقدرة الميدانية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، والتي تُخوِّلهم إدارة مستقبل الإنتقال السياسي في سوريا وحل الأزمة. وهو ما يعني حاجة تركيا للتعامل مع هذه الدول. في حين يجب ترجمة التعامل، بعيداً عن حسابات الأوراق الميدانية، والإبتزاز السياسي.
لا شك أن تركيا تمتلك لأسبابٍ عديدة القدرة على التأثير في الأزمة السورية بشكلٍ إيجابي. فيما يمكن أن يكون واقع هذه الأزمة اليوم فرصة لأنقرة، من أجل الحذو نحو تغييرٍ جذريٍ في سياستها الخارجية، كمقدمةٍ لإستراتيجية تُساهم في تعزيز وتعاظم دورها في المنطقة. فهل يمكن أن تخطو تركيا نحو ذلك؟