الوقت- لايغيب عن بال القارئ في التاريخ القديم والحديث, مصر الدولة التي تمتلك موقعا جغرافيا ممتازا يمكنها من لعب دور سياسي فعال.
هي مصر قناة السويس, الدولة التي تشكل صلة وصل بين الدول العربية والافريقية, ما جعل الجغرافيا تشبه روح سياسة هذا البلد, فمهما هبت العواصف داخل حدود البلد وانقلب الحكم , يعود ويرسو على إرث سياسة تعمقت في اروقة قصور حكام هذا البلد.
لا يمكن التعرض للسياسة المصرية دون أن نقرأ التاريخ السياسي لهذا البلد, حتى نستشرف من ماض طويل قيما سياسية تقيد الحاكم لهذا البلد فتمكننا من فهم الدبلوماسية المصرية بشكل دقيق.
فطاولات الصالون السياسي المصري ضمت وجمعت أعداءا كثر, وأصدقاءا كثر, وشهدت أقلام الدبلوماسية المصرية توقيع معاهدات كبرى لها وقع على السياسة الدولية والاقليمية.
فعلى مستوى قضايا العالم العربي, تشكل مصر نقطة اعتلام لتوجه السياسة العربية بأجمعها حيث تؤثر السياسة المصرية بقوة على قرار غالب الدول العربية التي تسير مسار مصر التسووي مع الکيان الاسرائيلي وتسوق لتطبيع العلاقات مع هذا الكيان.
محطات سياسية مهمة جرت خلال حكم الراحل جمال عبد الناصر ويليه انور السادات وبعدها حسني مبارك, وبين كل مرحلة وأخرى تاريخ مفصلي لمراحل حساسة في المنطقة, وسنوات ما زال التاريخ والحاضر حول أرقامها وأحداثها يدور وينطق.
ليس مجال بحثنا الحديث عن الماضي بقدر ما يفيد التوقف عنده من يهوى الاطلاع على مفاتيح السياسة المصرية, منذ القدم وحضارة بلاد مصر حتى يومنا هذا.
هي مصر التي يقال فيها "ام الدنيا" تنتهج سياسة وسطية تجمع بين الشرق والغرب, في استراتيجية تجعل منها مركز جذب سياسي وتمكنها من لعب دور فعال في الساحة الدولية. ولا يعني هذا أن السياسة المصرية تلتزم الحياد, بقدر ما يعني أنه يهم هذه الدولة أن تحافظ في لعبة الأمم على خط مسير وسطي يسمح لها بالحفاظ على روابطها مع الجميع ضمن الهامش الأكبر المتاح أمامها لممارسة فن الممكن.
في ظل الثورة المصرية, معرض حديثنا المباشر, حيث كتب التاريخ الحديث لمصر, عندما تمكن تيار الاخوان المسلمين من الوصول الى الحكم والسيطرة عليه ولو لفترة وجيزة, ورغم انتماء التيار الاخواني الى تيار اسلامي له قيمه ومبادئه, لم يستطع حكام الاخوان تجاوز قواعد السياسة المصرية الثابتة في التزام الوسطية, ما ظهر جليا في رسالة الرئيس المعزول محمد مرسي, الذي خاطب رئاسة الحكومة الاسرائيلية "بلطافة ولباقة" وصلت الى حدود الود, وكذلك بالنسبة الى العلاقة مع تيار المقاومة لا سيما حماس في غزة التي تنتمي الى تيار الاخوان, حيث فاقت توقعات حماس التي تحمست للثورات وذهبت الى البعيد في الامل والاحلام, لتلاقي من حكومة الاخوان المصرية, تعاونا خجولا تحت سقف المأمول والمطلوب من غزة المحاصرة, ليتضح لحماس أن فترة الحكم الاخواني لن تحمل بشرى تحقق أمنيات الغزاويين والفلسطينيين, لتبدأ حماس بعد هذه التجربة رسم مسار تصحيحي جديد لما انتهجته في سياستها, وتعيد حساباتها بواقعية أكثر وأقل حماسة !!
ويعود بعد شهور تخبط اخواني في الحكم, ويحكم العسكر بلباس مدني, ويبدأ من جديد فصل اعتادت مصر عليه, بعد غربة سياسية عاشتها في ظل حكم الاخوان, وتعود معه الثورة لتصب حيث بدأت.
فمصر الثورة, وصلت بحراكها لحكم الفريق السيسي, الذي تمكن في جولة سياسية انقلابية ناعمة, تمخض عنها استعادته الحكم من ايد الاخوان, والالتفاف على الثورة بعد انهاك الثوارالذي قام به الاخوان!!
فلا مصر حرة, لأن الثوار لم يعودوا احرارا بل في السجون, ولا ميادين الغضب والمواجهات الدموية ولا القبضات ولا الصرخات ولا حتى صداها دام واستمر .. كأن ميدان التحرير كان محطة تنفيس لاحتقان شعب مقهور, حصل على مراده وأخرج صراخه وطاقته وأفرغ أحلامه في الميادين, وعاد لمرحلة جديدة في الاسم, يبدو أنها لن تكون جديدة في حقيقتها وكأن الثورة أريد لها بعد أن تمر على مصر وتغير وجه الشاشة السياسية فيها, أن ترحل زخما الى بلد آخر هو المقصد حيث يجب أن تطول وتتخذ منحا اخر, إنها سوريا !!
مصر الفريق السيسي, هي هي, تلعب دورا مباركا من مبارك واولاده, الأحرار الطليقين, مقابل محمد مرسي المسجون, الذي قد عاد في زمن السيسي الى حيث كان في عهد مبارك .. الى الزنزانة وفصل عزلة وصمت طويل قد بدأ, ليصمت معه زمن هيجان اخواني في البلدان, وتتهاوى مشاريع دول عريقة عقدت عزمها عبر الثورات الاخوانية المتدحرجة من خلف حدود الدول والملل.
مؤشرات السلوك السياسي المصري, في المرحلة الحالية, تمنع المتعقل من الجزم حول التموضع النهائي لهذه التقلبات ليس على مستوى الحكم والحاكم, بل على مستوى سياسات الحاكم التكتيكية.
وإن كان التكتيك متقلب وفق الحاجة لكن الاستراتيجية أصبحت واضحة لكن فقط هذه المرة ليس "تي تي" بل "سي سي متل ما رحتي جيتي" !!
اليوم, تعود مصر لتلعب الدور الريادي للتسويات والوسطية, فتارة تضرب مصر حركات المقاومة في غزة وتشد الخناق والحصار عبر منطقة عازلة تفصل بين منطقة معبر رفح وغزة لم تكن زمن مبارك نفسه, وعبر اقفال الأنفاق بشكل شبه كلي ومكافحة التهريب حتى السلاح المقاوم, ونشر الجيش المصري في سيناء تحت حجة مكافحة الارهاب التي باتت جاهزة وتستخدم بشكل عالمي في أي ظروف تتطلب دخول قوات الى منطقة معينة, تكون حجة الارهاب التي يسبقها بعض الاعمال الارهابية المفبركة, جاهزة للاستثمار.
وتارة أخرى تقف مصر ليس في المكان الوسطي في ظل الحرب على غزة, بل المواجهة العلنية لانتصار المقاومة الفلسطينية والسعي الى تحصيل تسوية وفق شروط مذلة لحماس, لتظهر ضعيفة منهزمة وتحفظ وجه الخسارة المدوية للکيان الاسرائيلي.
كل هذا تحت عنوان مواجهة فكر الاخوان المسلمين الذي يعتبر السيسي وتياره من أشهر المعادين له, فيجري التضييق على غزة وتيار المقاومة الاخواني الانتماء, لكن ان كان هذا التبرير مقنع في السياسة ومقبول, فهو غير مقنع في خصوص غزة وموقعها من القضية الفلسطينية التي تتطلب مقاربة خاصة مختلفة !!
ولتعديل هذا المسار الذي بات يؤذي حركات المقاومة في المنطقة عموما, ويزعج الدول الوازنة التي تدعمها والتي تلعب دورا اقليميا ذات تأثير كبير أيضا, تحاول مصر اليوم النفوذ الى الملف السوري نقطة الاشتباك الساخن بين المحورين المتقابلين, لتسوق لتسوية تقودها تضع طرح حل للازمة السورية بعد استشراف الموقف الامريكي الذي يبدي ليونة في الملف السوري بعد معارك طي ذراع للنظام السوري, التي فشل فيها الغرب في النجاح وطالت مدة الصراع الى حد بات يخرج من اطاره الاقليمي, الى مستوى يهدد استقرار العالم اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا.
الدور المصري القديم الجديد, تراه ينفتح على السعودية أيضا, التي حاولت مؤخرا لعب دور الوسيط لاعادة العلاقات القطرية المصرية الى حال جيد, وتراه أيضا يقدم طرحا يجمع بين مطالب محور الممانعة, ومطالب الغرب الذي يريد التوصل الى حل للأزمة السورية يحفظ ماء وجهه فيه. فيحاول ارضاء محور الممانعة في الملف السوري, بعد ارضاء الکيان الاسرائيلي وامريكا في الملف الفلسطيني, وأما في العراق فنرى الدور المصري ايجابيا يدعو الى التوحد لمواجهة تيار داعش الذي ووفق التصريحات لمسؤولين مصريين يشكل خطرا كبيرا ليس على العراق وسوريا بل على المنطقة ككل.
الطمع المصري الطامح للكسب كيفما دارت الأحداث, جلي في سياسات تعبر عنه التحركات الدبلوماسية المصرية, وألسن المسؤولين المصريين جهرا, الذين يصرحون علنا بالتزام حراك ونشاط دبلوماسي واسع يؤكدون في وجود ارادة قوية عند الرئيس السيسي وفريقه الحاكم لاستعادة الدور الريادي لمصر في العالم العربي وتكوين جسر من العلاقات الضرورية بين الشرق والغرب, وفق تكتيك سياسي مصري قديم ودقيق يهدف لربط الحدود الجيوسياسية للدول المنقسمة من ايران وروسيا وسوريا الى امريكا واسرائيل وبعض الدول العربية كالأردن والسعودية "بأم الدنيا", في مسعى لتثبيت معادلة التوازن على طاولة السياسة المصرية, تتمكن فيها مصر من أن تكون الطرف الجامع والدولة "الزرقاء" التي على موائدها تعقد المعاهدات والاتفاقيات والتسويات, وما يحمله هذا اللا لون لمصر من قطاف على عدة مستويات وفق منظور حكامها وتمكن السيسي من تحصيل اكبر توافق ممكن حول وجوده من جميع الاطراف الفاعلة دوليا وهذا يؤمن له الفاعلية والشرعية خارجيا والمناعة والحصانة والامان داخليا من أي هزة قد تعصف في وجهه.