عندما قال "مارشال ماكلوهان" المنظر الكندي الشهير وصاحب فكرة القرية العالمية، عبارته الشهيرة "الإعلام رسالة"، ربما لم يتصور أن أسطورته في تكنولوجيا الاتصالات أي التلفزيون، سوف يستسلم أمام منافسه الجديد أي "الإنترنت"، وذلك في أقل من عقدين من الزمن.
يقول العلماء إن أهم تأثير ثقافي لوسائل الإعلام الجديدة، هو تغيير نمط حياتنا، الأمر الذي ليس له علاقة تُذكر مع المحتوى المستخدَم. فعلى سبيل المثال، عندما نقول إن الحضور في وسائل التواصل الاجتماعي سيسلب منا الفرصة للحضور بين أفراد الأسرة، فلا فرق حينه بأننا نقرأ علی شاشة هاتفنا الذكي آخر الأخبار، أو نقرأ نکتةً أو موضوعاً مسلياً!
من ناحية أخرى إن الشبكات الاجتماعية الجديدة أو ما يسمى "ويب 2 و3" لها ثقافة جديدة. هذه الثقافة ورغم أنها في الظاهر تکون نتيجةً لبعض من الميزات الجذابة مثل الإعجاب، ولكنها في الواقع نتيجةٌ لخلفية فكرية قوية في المجتمعات الحديثة. فالإعجاب نتيجةٌ لمجتمع ليبرالي لا قدسية فيه لأي شيء ولا لأي أحد، إلا إذا استطاع اجتذاب إعجاب عدد أكبر من الناس. ومن ناحية أخرى، لكل إنسان الحق في إبداء الرأي حول أي موضوع.
في كل يوم نصبح أكثر غباءً ؟
في كل يوم نقرأ الآلاف من المواضيع المختلفة في العالم الافتراضي، دون أن نتيح لعقلنا فرصةً لتحليل وفهم الأحداث بشکل صائب. فوسائل الإعلام الحديثة تقدّم لنا معلومات ليست کتلك التي نحتاجها في المقام الأول، بعبارة أخری إننا اليوم لدينا الكثير من المعلومات حول مواضيع مختلفة، دون أن نعرف مدی حاجتنا لهذه المعلومات، أو کيف يمکن أن نستفيد منها في المستقبل. طبعاً هذا الأمر له معنى آخر أيضاً! وهو أننا لا نملك كثيراً من المعلومات التي من الأرجح أنها مفيدةٌ لنا!
في المستقبل القريب جداً من أيامنا هذه، ستبرز "الحياة الثانية"!
لكن المجموعة الثانية التي تأثرت بالعالم الافتراضي بشکل أعمق، هم أولئك الذين صنعوا بالفعل شخصيةً وحياةً ثانيةً لأنفسهم. ومن إحدی النتائج المترتبة على الذهاب وراء الحياة الثانية، هي تسليط الضوء على العالم الموازي. مصطلح "العالم الموازي" يطلق على العالم الذي يجري بالتوازي مع هذا العالم، وإبراز هذا المفهوم من الحياة الإنسانية والذي يبذل جهودٌ کبيرة في السنوات الأخيرة لتحقيق ذلك، عبر البرامج التلفزيونية والأفلام الغربية وخصوصاً الأمريکية.
وهو الأمر الذي سيستتبع إضعاف الإيمان بالآخرة والمعاد، لأن الشخص الذي يعتقد أن هناك عالماً بالتوازي مع هذا العالم، يصبح رافضاً للعالم الذي يبدأ بعد الموت (بالتوالي وليس بالتوازي). وإذا أمعنا النظر فإن الحياة الثانية للإنسان، تتشکل عندما يخصّص لهويته الافتراضية مصداقيةً على مستوى هويته الحقيقية أو أعلى منها.
الحياة السيبرانية
تقوم الحياة السيبرانية علی أساس الهوية الافتراضية، ويمكننا القول إن كل الذين ينشطون في الفضاء الإلكتروني کعناصر فاعلة، ويرسلون للآخرين مجموعةً متنوعةً من الرسائل المختلفة من خلال أنشطتهم، قد شكلوا لأنفسهم حياةً سيبرانيةً. ومع تطور وانتشار وسائل الاتصال، أتيحت للناس فرصةٌ لتقديم صور مختلفة عنهم، وإخفاء هويتهم الحقيقية التي قد تکون مختلفةً عن هويتهم الافتراضية بشکل کبير.
والهوية الافتراضية بعد أن تشكلت، (في الذهن أولاً ومن ثم في الفضاء الإلكتروني والفضاء الإعلامي)، ستحتل جزءاً من حياة وقلب وعقل الإنسان، ذلك أن هذه الهوية لها حياة منفصلة أيضاً. وهکذا يمكن لأي شخص أن يكون کما يحلو له. کما يمكن في هذا الفضاء أيضاً أن يتحرّر من جميع القيود المدنية والأسرية والمالية، و....، ويصنع حياته المفضلة.
في المستقبل القريب سنرى!
لمعرفة الذين أصبحت هويتهم الافتراضية حقيقةً من حقائق حياتهم، من المبكر قليلاً أن ننظر إلی مَن حولنا. فشبابنا اليوم هم أبناء شاشة التلفزيون کما يقال، ولم يستأنسوا بالشبكات الاجتماعية سوی بضع سنوات. الشباب الذين هم أقل اهتماماً بقراءة الكتب بالقياس إلی جيلهم السابق. عقولهم مليئةٌ بالمعلومات الکثيرة، ولكن الضحلة! وعددٌ قليل منهم لديهم أفكار منظمة ومنضبطة. ومع ذلك، مازلنا يجب أن ننتظر بضع سنوات، لرؤية الجيل الذي تشکلت أهم أنشطته وأحداث حياته، بما في ذلك النظرة الکونية والمشاعر، الآراء السياسية والاجتماعية و ...، في العالم الافتراضي بشکل کامل، وتحولت حياته الافتراضية إلی حقيقة في حياته. وإذا كنا نريد ألا نصاب بالذهول والحيرة بسبب رؤية هذا العالم الافتراضي الجميل في السنوات المقبلة، فعلينا أن نفكر بالمستقبل من الآن قبل فوات الأوان.