الوقت- يشكّل القمع الدموي للتظاهرات التي شهدتها مناطق الساحل السوري حدثاً بالغ الحساسية، ليس فقط بسبب ما انطوى عليه من عنف، بل لأنه وقع في لحظة سياسية واجتماعية شديدة الهشاشة، فالساحل، بما يحمله من تنوع طائفي واجتماعي، ظلّ لسنوات منطقة مثقلة بالمخاوف والقلق، وتحوّل أي حراك شعبي فيه إلى مؤشر عميق على مستوى الاحتقان داخل الدولة والمجتمع، إن خروج تظاهرات في هذا التوقيت يعكس حالة من الإحباط العام، ويشير إلى فجوة متزايدة بين الشارع والسلطة القائمة، وخصوصاً في ظل تدهور الأوضاع المعيشية وغياب أفق سياسي واضح.
طبيعة القمع وحدوده الأمنية
القمع الذي وُصف بالدموي لم يكن مجرد إجراء أمني عابر، بل حمل في طياته رسالة سياسية واضحة مفادها بأن الاحتجاج غير مسموح به، حتى في المناطق التي يُفترض أنها أكثر حساسية من حيث التوازنات الاجتماعية، استخدام العنف المفرط، أياً كانت مبرراته، يكشف عن اعتماد السلطة على الأدوات الأمنية بدل المعالجة السياسية، ويعكس ضعف الثقة بقدرتها على احتواء الغضب الشعبي بوسائل سلمية، كما أن هذا النهج يعمّق الشعور بالخوف والاغتراب لدى السكان، ويحوّل الاحتجاج من مطلبيّ إلى صراع وجودي بين المجتمع وأجهزة القوة.
فشل المعالجة السياسية وغياب الحوار
يبرز القمع الدموي للتظاهرات في الساحل بوصفه نتيجة مباشرة لفشل واضح في إدارة الخلافات بوسائل سياسية، فبدلاً من فتح قنوات تواصل حقيقية مع المحتجين والاستماع إلى مطالبهم، جرى اللجوء سريعاً إلى الحلول الأمنية، ما يعكس ذهنية إدارة أزمة لا إدارة دولة، هذا الغياب للحوار لا يزيد إلا من اتساع الهوة بين السلطة والمجتمع، ويحوّل المطالب الاجتماعية إلى حالة عداء مفتوحة، إن تجاهل البعد السياسي للاحتجاجات يفرغ أي حديث عن إصلاح أو انتقال من مضمونه، ويؤكد أن السلطة المؤقتة ما زالت أسيرة أدوات الماضي.
الأبعاد الاجتماعية والطائفية للأحداث
لا يمكن فصل ما جرى في الساحل عن البعد الاجتماعي والطائفي، فهذه المنطقة تضم أقليات تشعر تاريخياً بالحساسية تجاه أي اضطراب أمني، القمع في هذا السياق لا يُقرأ فقط كإجراء ضد تظاهرة، بل كتهديد مباشر لشعور الأمان لدى هذه الفئات، ومع غياب سياسات واضحة لحماية التنوع وضمان الحقوق المتساوية، تتعزز المخاوف من أن تتحول الدولة إلى طرف غير محايد، إن الإخفاق في طمأنة الأقليات يهدد النسيج الاجتماعي، ويفتح الباب أمام توترات أعمق قد يصعب احتواؤها لاحقاً.
انعكاسات القمع على السلم الأهلي
إن أخطر ما في القمع الذي شهدته مناطق الساحل لا يقتصر على الخسائر البشرية، بل يمتد ليطال مفهوم السلم الأهلي ذاته، فحين يشعر المواطن، وخاصة المنتمي إلى أقلية طائفية، بأن الدولة عاجزة عن حمايته أو غير معنية بمخاوفه، يبدأ الانتماء الوطني بالتآكل، هذا الشعور يولّد حالة من الانغلاق والخوف المتبادل، ويعيد إنتاج الاصطفافات الضيقة، ومع استمرار هذا المسار، يصبح المجتمع أكثر هشاشة أمام أي صدمة جديدة، وتفقد الدولة قدرتها على لعب دور الضامن للتوازن والاستقرار بين مكوناته المختلفة.
التداعيات السياسية على الداخل السوري
على المستوى الداخلي، من المرجح أن يخلّف هذا القمع آثاراً طويلة الأمد، فبدلاً من إخماد الاحتجاجات، قد يؤدي العنف إلى إعادة إنتاجها بأشكال أكثر حدّة وتنظيماً. كما أن تراجع الثقة بالسلطة المؤقتة يزيد من عزلة مؤسسات الحكم عن المجتمع، ويضعف قدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية، ومع استمرار تدهور الخدمات والاقتصاد، يصبح القمع بديلاً هشّاً لا يمكنه تعويض غياب الشرعية السياسية أو الرؤية الوطنية الجامعة.
غياب الرؤية الوطنية الشاملة
تكشف أحداث الساحل، وما رافقها من قمع دموي، عن أزمة أعمق تتعلق بغياب رؤية وطنية شاملة لإدارة المرحلة الحالية في سوريا، فالسلطة المؤقتة تبدو منشغلة بردود أفعال آنية، دون امتلاك مشروع واضح يعالج جذور الاحتقان السياسي والاجتماعي، هذا الغياب ينعكس في التخبط بين الخطاب والممارسة، وفي العجز عن تقديم تطمينات حقيقية للمجتمع، وخاصة للأقليات، إن استمرار الحكم دون رؤية جامعة يضعف أي محاولة لبناء دولة مستقرة، ويجعل القرارات الأمنية بديلاً خطيراً عن السياسات العامة.
مستقبل السلطة المؤقتة بقيادة الجولاني
تبدو السلطة المؤقتة الحالية، بقيادة الجولاني، عاجزة عن اجتياز اختبار الحكم في بلد يرزح تحت أعباء الانقسام والصراع المزمن، ففشلها في حماية الأقليات، وضبط السلوك الأمني، واحتواء الاحتجاجات بوسائل سياسية، يكشف عن محدودية قدرتها على إدارة مرحلة انتقالية معقدة، ويعكس الاعتماد المتكرر على القمع غياب رؤية حقيقية لبناء الاستقرار، ويؤكد أن هذه السلطة لم تنجح في التحول من منطق السيطرة إلى منطق الدولة، إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط فرص الاستقرار، بل يسرّع في تآكل ما تبقى من شرعية، ويفتح الباب أمام أزمات أعمق في المستقبل القريب.
البعد الرمزي للساحل في المعادلة السورية
يحمل الساحل السوري بعداً رمزياً خاصاً في المشهد السياسي والاجتماعي، ما يجعل أي اضطراب فيه ذا دلالات تتجاوز الجغرافيا. فالساحل لم يكن يوماً مجرد مساحة احتجاج، بل منطقة ترتبط في الوعي العام بمفاهيم الحماية والاستقرار، لذلك، فإن قمع التظاهرات فيه يرسل إشارات سلبية إلى باقي المناطق، مفادها أن لا مكان آمناً للاعتراض، هذا البعد الرمزي يضاعف من خطورة الحدث، ويجعل من التعامل الأمني معه عاملاً مهدداً لوحدة الشعور الوطني، لا مجرد إجراء ظرفي.
آفاق المرحلة المقبلة واحتمالات التصعيد
في المحصلة، تبدو الأوضاع في سوريا، وخصوصاً في الساحل، مرشحة لمزيد من التعقيد إذا لم تُراجع السياسات الحالية بجرأة، القمع الدموي قد يفرض صمتاً مؤقتاً، لكنه لا يعالج جذور الأزمة، بل يراكم أسباب الانفجار، المستقبل القريب سيتحدد بمدى استعداد السلطة للانتقال من منطق القوة إلى منطق الدولة، ومن إدارة الخوف إلى بناء الثقة، دون ذلك، ستظل سوريا عالقة في دائرة القلق، وستبقى الأقليات وسائر فئات المجتمع رهينة واقع غير آمن، يفتقر إلى الاستقرار والعدالة.
