الوقت- لقد باتت منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا رهينة أزمة مائية طاحنة، أضحت معها حياة 83% من سكانها في قبضة التوتر المائي، فيما تحتضن هذه الرقعة الجغرافية 12 دولة من أصل 17 تعدّ الأكثر تعرضاً لضغوط المياه في العالم بأسره، ومنذ أن وُلد الكيان الصهيوني من رحم المؤامرات الاستعمارية، كان استحواذه على الثروات المائية هاجساً استراتيجياً يتقدّم على سائر أولوياته، فقد اعتمد لتحقيق غاياته أساليب الاحتلال المباشر للمناطق الغنية بالمياه وتحريف مجاري الأنهار، في سعي دؤوب لإخضاع منابع المياه في المنطقة لمطامعه التوسعية.
وما شهدناه من أفعال الكيان في جنوب سوريا، حيث استحوذ على 40% من الموارد المائية المشتركة بين سوريا والأردن، يبرهن على استمرار سياسته العدوانية الممنهجة الرامية إلى احتكار شرايين الحياة في هذه الأرض العطشى.
وفي خضمّ هذا المشهد المأزوم، يبرز لبنان، ولا سيما جنوبه، كغنيمة تسيل لها لعاب هذا الكيان، فالجنوب اللبناني، بما يضمه من موارد مائية بالغة الأهمية مثل نهر الوزاني ونهر الليطاني، ظلّ لعقود مستهدفاً بأطماع الكيان الصهيوني التي لا تعرف حدوداً، وما إن يُمعن الباحث النظر في هذا الملف حتى يتبيّن له أن أنظار قادة الاحتلال نحو الجنوب اللبناني، ليست محض نزاع حدودي أو قلق أمني، بل هي أطماع متجذرة في الهيمنة على موارد تمثل شريان بقاء ذلك الكيان في منطقة يفتك بها الظمأ.
إن الفكرة الصهيونية الرامية إلى الهيمنة على المياه اللبنانية ليست وليدة اليوم، بل هي ضاربة بجذورها في تاريخ المشروع الصهيوني منذ بداياته، ففي عام 1919، رسم ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان، تخوم “الوطن القومي لليهود”، مُدرجاً فيها منابع نهر الأردن وأجزاء من نهر الليطاني جنوب لبنان، ولم يلبث أن صرّح عام 1956 قائلاً: “لقد دخلنا في حرب مع العرب، عنوانها المياه”، وعلى خطاه، سار موشيه ديان، وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، الذي أكد بعد عدوان 1967 أن “مصير الدولة اليهودية في فلسطين مرهون بقضية المياه”.
وما إن انسحب الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000 حتى تبدلت أدوات الطمع وأقنعها الكيان بلبوس جديد، فقد أضحت الأطماع تتركّز على الثروات الكامنة في أعماق البحر، كما هو الحال مع حقول الغاز مثل حقل كاريش، فضلاً عن المياه السطحية والجوفية التي تزخر بها الأرض اللبنانية، ليغدو ذلك جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الأمن القومي الصهيوني الممتدة عبر الزمن.
مسرح الصراع: نهرا الوزاني والليطاني
من أوضح مشاهد هذا الصراع المحتدم، النزاع على مياه نهر الوزاني، الذي ينبع من جنوب لبنان، فيشق طريقه صوب نهر الأردن، قبل أن يصب في بحيرة طبريا، تلك البحيرة التي تُعدّ أعظم مخزون للمياه العذبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتشير الإحصاءات إلى أن مياه الوزاني تمدّ نهر الأردن بنحو 25% من إجمالي مياهه، ما يجعلها عصباً حيوياً تعتمد عليه "إسرائيل"، التي تعاني أزمةً مائيةً مزمنةً بفعل عوامل شتى، منها تراجع معدلات الأمطار، وتزايد السكان، والإفراط في استهلاك الموارد.
وفي عام 2002، حينما أقدمت الحكومة اللبنانية على تنفيذ مشروع لنقل تسعة آلاف متر مكعب من مياه الوزاني يومياً لتلبية احتياجات القرى الجنوبية، اشتعل غضب الكيان الصهيوني، وخرج أرييل شارون، رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، مهدداً بأن هذه الخطوة “ستشعل حرباً”، مؤكداً أن "إسرائيل" لن تقف مكتوفة الأيدي حيالها، إلا أن لبنان، متمسكاً بقوانين الشرعية الدولية، أثبت حقه السيادي في استثمار مياهه لخدمة أبناء الجنوب الذين عادوا إلى ديارهم بعد انسحاب الاحتلال.
أما نهر الليطاني، فقد كان منذ فجر الحركة الصهيونية هدفاً صريحاً في مخططات قادتها، فقد أبدى تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، اهتماماً بالغاً بضرورة ضمّ جنوب لبنان إلى الدولة اليهودية المزعومة، لضمان السيطرة على شريان الحياة المتمثل في الليطاني، ولم تقتصر هذه الأطماع على التصريحات النظرية، بل تجلت في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، حينما ضغطت الحركة الصهيونية بشدة لضمّ منابع نهر الأردن ونهر الليطاني إلى فلسطين الخاضعة آنذاك للانتداب البريطاني.
وفي عام 1941، صرح ديفيد بن غوريون قائلاً: “علينا أن نضع نصب أعيننا أن نهر الليطاني يجب أن يدخل ضمن حدود دولتنا اليهودية”، ولم يكتفِ بذلك، بل كرّر طموحه بضمّ الشمال اللبناني حتى نهر الليطاني إلى "إسرائيل"، مؤكداً أن ذلك يمثل جزءاً لا يتجزأ من رؤيته لمستقبل الكيان.
تصاعد التوترات في جنوب لبنان واحتمال اندلاع عدوان بري واسع من الكيان الصهيوني
إن الجنوب اللبناني، منذ عامين خليا، وخاصة عقب اندلاع الحرب اللبنانية الثالثة وما أعقبها من وقف هشّ لإطلاق النار، بات مسرحاً لانتهاكات متكررة واشتباكات عسكرية متقطعة، تتشابك خيوطها في إطار صراع استراتيجي محتدم على الموارد والثروات، وقد أفادت تقارير متواترة خلال الأشهر المنصرمة عن غارات جوية كثيفة شنتها طائرات الكيان الصهيوني على مناطق عدة من الجنوب اللبناني، كجبل صافي، وإقليم التفاح، وزلايا، والريحان، وحومين، في سياق عدوان ممنهج تتعدى أهدافه الظاهرة إلى نيات تضرب بجذورها في عمق الطمع الاستعماري.
إن هذه الاعتداءات لا تقتصر على محاولة وهن المقاومة اللبنانية وتقويض بنيتها الدفاعية، بل تتجاوز ذلك إلى مخططات غائرة تسعى إلى اجتياح الجنوب اللبناني حتى مشارف نهر الليطاني، حيث تتلهف عيونهم على موارد المياه الغزيرة التي يفيض بها هذا الشريان الحيوي، فأطماعهم في تلك المياه ليست وليدة اللحظة ولا هي نزوة عابرة، بل هي مساعٍ مشحونة بأوهام السيطرة والهيمنة، تتغذى على هوسهم التاريخي بضمان ما يسمونه “الأمن المائي”، في ظل أزمة شحّ المياه التي تعصف بكيانهم المهتز، الذي لا يرتوي إلا باغتصاب مقدرات غيره.
وما يزيد الموقف احتقاناً وخطراً، أن هذه التوترات تتزامن مع صعود التيارات اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم في الكيان الصهيوني، وهي تيارات لا تخفي ولعها بإشعال الحروب واحتلال الأراضي، بل تمضي في أحلامها الجامحة إلى حد الحديث عن إسكان المستوطنين اليهود في الجنوب اللبناني، وتستند هذه التوجهات إلى ذرائع واهية تتذرع بالاعتبارات التاريخية والأمنية، وتؤكد في مكنونها على ضرورة السيطرة على ما وراء نهر الليطاني، وإن كانت هذه الدعوات لا تُطرح في العلن بصورتها الجلية، إلا أنها تمثّل انعكاساً صريحاً لجذور أطماعهم التاريخية والأيديولوجية في أرض الجنوب، ومواردها المائية التي تسيل لعابهم.
وتكشف الوثائق والتقارير عن أن نظرة الكيان الصهيوني إلى الجنوب اللبناني ليست نظرةً عابرةً أو مقتصرةً على الاعتبارات الأمنية، بل هي جزء من مشروع استراتيجي ضارب في القدم، فمن ادعاءات ديفيد بن غوريون بشأن ضمّ نهر الليطاني، إلى تحذيرات أرييل شارون حول نهر الحاصباني، وصولاً إلى النزاعات الراهنة حول الثروات الغازية في البحر، يتضح خيط ممتد يربط بين أطماعهم القديمة ومخططاتهم الراهنة، في مشهدٍ يعكس استمرارية سياسة النهب والعدوان.
وفي ظل واقع متأزم، حيث يعاني الكيان الصهيوني من أزمة مائية متفاقمة، بينما يحاول لبنان تثبيت دعائم سيادته الوطنية وإعادة إعمار ما دمرته الحروب، باتت الحدود الجنوبية للبنان والنطاق الشمالي لفلسطين المحتلة من أكثر مناطق التوتر اشتعالاً، فهذا الصراع المتجدد يفضح النوايا الحقيقية للكيان الصهيوني، الذي يسعى لتكريس هيمنته على موارد المنطقة الطبيعية، مستغلاً حالة الانقسام الدولي وتراجع الالتزام بالقوانين الدولية.
وقد حذّر المحللون والدول الإقليمية من أن الكيان الصهيوني، في هذه المرحلة الحرجة، قد تجاوز كل الضوابط والمواثيق الدولية، ممعناً في انتهاكاته الجنونية التي طالت شتى أنحاء المنطقة، ولعل أبرز تلك الانتهاكات العدوان على العاصمة القطرية، حليف الولايات المتحدة الأهم خارج إطار الناتو، ما يعكس استهتارهم بأي قيود أو اعتبارات دولية، وفي ظل هذا الجنون العدواني، تتزايد احتمالية اندلاع عدوان واسع النطاق على الجنوب اللبناني، يستهدف السيطرة الكاملة على السهول الخصبة التي يزخر بها، تماماً كما فعلوا في سوريا، حيث لا تزال آلة الحرب الصهيونية تعمل بلا هوادة لتكريس احتلالها وسرقة مواردها، في تحدٍّ سافر لكل القيم الإنسانية والقوانين الدولية.
