الوقت- في الأيام المنصرمة، أقدمت الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، على تنظيم عرض جماهيري مهيب، كشفت خلاله النقاب عن مركبات الشرطة الجديدة المجهزة بأحدث التقنيات، في مشهدٍ أرادت له أن يكون رمزًا للقوة والحداثة.
غير أنّ هذه المركبات الفاخرة أُطلقت في وقتٍ تعيش فيه سوريا تحت وطأة أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية خانقة، ما يجعل هذه الخطوة أقرب إلى محاولة للتغطية على انعدام الحلول الحقيقية.
وبالنظر إلى حضور القادة العسكريين الأتراك في مراسم العرض، والتشابه الجلي بين تصميم المركبات السورية ونظيرتها التركية، يرجّح أنّ هذه السيارات قد جاءت بتمويل تركي مباشر، كهدية من حكومة أردوغان إلى حكومة الجولاني، في مسعى لتعزيز نفوذها داخل الأراضي السورية.
سرعان ما انتشرت صور هذا العرض في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، لتثير سيلاً من التأويلات المختلفة، وتتحوّل إلى رسالة رمزية متعددة الأبعاد أرادت الحكومة من خلالها مخاطبة الشعب السوري بلغة القوة والهيبة.
إرهاب المعارضين وتكميم أفواههم
من بين الأبعاد التي يمكن تلمّسها في هذا العرض الكبير، تزامنه مع موجة احتجاجات شعبية اندلعت في منطقة “بيت جن” الواقعة في ريف دمشق، وهي احتجاجات بدأت بمواجهة الاحتلال الصهيوني، لكنها لم تلبث أن تحولت إلى حركة اجتماعية واسعة النطاق أثارت قلق الحكومة المؤقتة.
ولعلّ ما يعزز هذه القراءة هو أنّ الأمن في سوريا، ومنذ عام كامل من حكم الجولاني، ظلّ أشبه بسراب بعيد المنال، بل إنّ الأوضاع الأمنية ازدادت سوءًا بعد أن بسطت الجماعات المسلحة التابعة له نفوذها على البلاد، حيث بات القمع والاعتقالات التعسفية والقتل الممنهج بحق الأقليات، من الدروز إلى العلويين، جزءًا ثابتًا من التقارير التي توثّق ممارسات هيئة تحرير الشام.
وفي ظل هذا الواقع، تواصل آلة الاحتلال الصهيوني تمددها داخل الأراضي السورية دون أي رد فعل يُذكر من حكومة الجولاني، ما ألقى بظلال من الشك على قدرتها على صون وحدة البلاد وحماية أراضيها من عبث المحتل، وبناءً على ذلك، جاءت احتجاجات “بيت جن” ضد الاحتلال الصهيوني لتدق ناقوس الخطر لحكومة الجولاني، التي سارعت إلى تنظيم هذا العرض الأمني الضخم كرسالة تهديد إلى كل من تسوّل له نفسه الاعتراض على سياستها، وكأنها تقول للمجتمع السوري: إنّ اليد التي تُصافح لا تتردد في أن تضرب، وإنّ القوة مستعدة لسحق كل صوت معارض.
رسالة ولاء إلى تل أبيب
لم تقتصر أبعاد هذا العرض الأمني على الداخل السوري فحسب، بل حملت بين طياتها رسالةً واضحةً إلى الاحتلال الصهيوني، فقد أراد الجولاني من خلال هذا الاستعراض أن يثبت لتل أبيب أنّ حكومته قادرة على ضبط الأوضاع الداخلية، وأنّ أي احتجاجات شعبية، حتى تلك الموجهة ضد الاحتلال، لن تشكّل تهديدًا لأمن جنودها أو الأراضي التي تحتلها.
وتتضح أهمية هذه الرسالة حين توضع في سياق تصريحات بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني، الذي شدّد مرارًا على ضرورة أن تكون المنطقة الممتدة من دمشق إلى جبل الشيخ خاليةً من السلاح، معتبرًا ذلك شرطًا أساسيًا لأي اتفاق أمني محتمل مع حكومة جولاني.
وفي ظل الضغوط الدولية المتزايدة على "إسرائيل" جرّاء اعتداءاتها المتكررة على سوريا، والتي بلغت ذروتها في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا لمصلحة قرار يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، يبدو أنّ تل أبيب تسعى إلى تقليص تدخلها المباشر في سوريا، عبر تفويض بعض المسؤوليات الأمنية إلى حكومة الجولاني.
أما الجولاني، فقد بدأ بالفعل باتخاذ خطوات عملية لتلبية مطالب الاحتلال الصهيوني، حيث كشفت تقارير حديثة عن قيام الجماعات التابعة له بتشييد جدران وحواجز في بعض مناطق دمشق، بهدف تقييد حركة السكان العلويين ومراقبة أنشطتهم عن كثب، في محاولة لمنع أي احتجاجات مستقبلية ضد الحكومة المركزية، وفي هذا السياق، جاء استعراض مركبات الشرطة كجزء من استراتيجية الجولاني لتثبيت أركانه داخليًا، ولإثبات حسن نيته في خدمة مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
وهم الأمل في نفوس الشعب
على الرغم من البهرجة التي أحاطت بالكشف عن مركبات الشرطة الجديدة، فإنّ هذا العرض لم يكن سوى محاولة بائسة لإخفاء أزمات الحكومة المؤقتة، ففي عام كامل من حكم الجولاني، لم تحقق الحكومة أي إنجازات تُذكر على الصعيد الاقتصادي، إذ لا تزال العقوبات الغربية تخنق البلاد، وفشلت جهود جذب الاستثمارات الأجنبية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
وقد أثمرت هذه الإخفاقات واقعًا مريرًا، حيث تراجعت الإيرادات، وتفشى الفقر، وتعطلت طرق التجارة، وضعفت الخدمات العامة، ما أجّج مشاعر الاستياء الشعبي، وفي ظل هذه الظروف، جاء عرض مركبات الشرطة كأداة دعائية تهدف إلى خلق وهم بالحداثة والتقدم، في محاولة لتخفيف حدة الغضب الشعبي، وإيهام المواطنين بأنّ الحكومة تمسك بزمام الأمور، وأنّ الحلول باتت قاب قوسين أو أدنى.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ هذه الاستراتيجية ليست سوى نوع من التلاعب النفسي الجماعي، حيث تسعى الحكومة من خلالها إلى خلق صورة زائفة عن الاستقرار والازدهار، بينما تستغل هذا الوهم لفرض سياساتها القمعية واستمرار هيمنتها دون مقاومة تُذكر.
تجميل الصورة أمام المجتمع الدولي
ومن بين الأهداف الأخرى لهذا العرض الأمني، سعي حكومة الجولاني إلى تخفيف وطأة الانتقادات الدولية التي تواجهها بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان، فالجماعات المسلحة التابعة للجولاني، التي كانت تُعرف سابقًا بكونها ميليشيات إرهابية، دأبت خلال العام الماضي على استخدام المركبات العسكرية الثقيلة في عملياتها الأمنية ضد المعارضين، وهي ممارسات أثارت موجةً من الإدانات الدولية بوصفها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
لكن مع استبدال تلك المركبات الثقيلة بسيارات الشرطة الحديثة، تسعى الحكومة إلى إعادة تشكيل صورة هذه الجماعات من ميليشيات مسلحة إلى قوات أمنية قانونية، ما يتيح لها تبرير عملياتها القمعية ضد المعارضين تحت غطاء القانون والنظام.
ويهدف هذا التغيير الرمزي إلى إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها بأنّ الحكومة المؤقتة تسير في طريق بناء مؤسسات قانونية، قادرة على إدارة شؤون البلاد وفق المعايير الدولية المتعارف عليها، وهو ما قد يُخفف من حدة الانتقادات العالمية، ويمنح الحكومة فرصةً لتعزيز علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية.
خاتمة
إنّ استعراض مركبات الشرطة الفاخرة، على الرغم مما يحمله من مظاهر القوة والحداثة، لا يعدو كونه محاولةً للتغطية على واقعٍ متأزم يعيشه الشعب السوري، فما لم تُحلّ الأزمات الاقتصادية العميقة، وما لم تتمكن الحكومة المؤقتة من تلبية احتياجات الشعب الأساسية، فإنّ هذه العروض لن تتجاوز كونها مظاهر دعائية زائلة، تُخفي خلفها هشاشة النظام وتفاقم الأزمات، بل إنّ هذه السياسات قد تُفضي إلى نتائج عكسية، حيث إنّ محاولة شرعنة القمع والتضييق على الأقليات قد تؤجج الاحتجاجات، وتضع حكومة الجولاني أمام تحديات أعظم تهدد وجودها ذاته، وتكشف زيف استعراضات القوة التي تحاول ترسيخها.
