الوقت – يمثّل اعتلاء زهران ممداني، ذلك الشاب المهاجر ذي البشرة السمراء والهوية الإسلامية، سدة العمدة في نيويورك، ظاهرةً فريدةً أذهلت الألباب وأثارت حيرة الكثيرين في أرجاء المجتمع الأمريكي.
إن سر نجاح شاب لم تطأ قدماه أرض أمريكا مولداً، وغريب الأطوار عن المنظومة السياسية والفكرية المهيمنة على زمام الحكم في هذا البلد، في اقتحام حصن عمدة أحد أعظم الولايات، لهو لغزٌ دفع المحللين وأرباب الإعلام نحو سبر أغوار الطبقات الخفية لهذا التحول الجذري في بوصلة الناخبين.
دراسات سبق أن كشفت النقاب، إبان الاحتجاجات الطلابية العارمة المؤازرة للقضية الفلسطينية في الجامعات الأمريكية المرموقة، عن انسلاخ تدريجي للهوية والخطاب السياسي-الاجتماعي التقليدي، وتنامي الاستقطاب في نسيج المجتمع الأمريكي.
يشي هذا الانسلاخ بوجود كتلة ناخبة حضرية في أمريكا غدت أكثر سيولةً من الناحية الأيديولوجية، وأشدّ استجابةً لحملات الفعل النشط، وأوفر استعداداً لاصطفاء مرشحين تتباين هوياتهم ومواقفهم من السياسة الخارجية عن القواعد التقليدية الراسخة.
1. وقائع انتخابية جوهرية: ماذا جرى في ساحة الاقتراع؟
زهران ممداني، ذلك الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر أربعة وثلاثين ربيعاً وعضو المجلس الولائي، المولود في أوغندا والناشئ في أحضان نيويورك، حاز قصب السبق في انتخابات عمدة نيويورك بعد أن نسج تحالفاً تقدمياً واسع النطاق، وحشد جموع ناخبين كانوا أقل حضوراً في دورات الاقتراع السالفة.
تمحور خطابه الدعائي حول سياسات اقتصادية حضرية جسورة، منها تجميد الإيجارات، وتخفيض أجور المواصلات وتوفير حافلات بلا مقابل، ورعاية الأطفال للقاصي والداني، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتدخلات حكومية في أسواق الغذاء والإسكان.
ومن ناحية أخرى، خاض غمار المنافسة متسلحاً بمواقف مناصرة لفلسطين، داعمة للمهاجرين، معارضة لسياسات ترامب في ملف الهجرة، جعله يظفر بمنصب أول عمدة مسلم وأحد أصغر من تقلّد منصب العمدة في نيويورك، وقد تمخض هذا النصر في جوهره عن مشاركةٍ فاقت التوقعات من الشباب والمستأجرين والوافدين الجدد في أحياء بروكلين وكوينز وبرونكس.
2. سوسيولوجيا أصوات ممداني: أربعة محاور متشابكة
أ) هشاشة الأمن الاقتصادي المتجذرة في نسيج الحياة الحضرية المكتظة
يفرز سوق الإسكان في نيويورك، وأعباء النقل الباهظة، وندرة مرافق رعاية الأطفال، والتفاوت الصارخ في الدخل، ضغطاً بنيوياً يفضي إلى رواج وعود العدالة الاجتماعية وتوسيع مظلة الخدمات العامة، في المدن حيث ترزح الإيجارات وتكاليف النقل تحت نير الغلاء الفاحش، تكتسب الوعود السياسية التي تخفف مباشرةً من الأعباء الشهرية للأسر (ضبط الإيجار، النقل المجاني، رعاية الأطفال) ثقلاً سياسياً أعظم لدى أصحاب الدخل المتواضعة والمتوسطة، كان برنامج ممداني استجابةً صريحةً للهواجس المالية للمستأجرين والعمال ذوي الدخل المحدود والأسر الفتية، وهي فئات تشكّل شريحةً ضخمةً ومتناميةً من قاعدة الناخبين في نيويورك. تضرب جذور هذا المحور في اتجاهات حضرية ممتدة مثل تصاعد تكاليف السكن، وهشاشة فرص العمل، وتآكل القوة الشرائية للأجور لدى السواد الأعظم… اتجاهات عدّها علماء السياسة وخبراء اقتصاديات المدن مصادر لتبلور الطلب على حلول حضرية جريئة.
ب) التحول الجيلي والثقافي: جيل Z بوصفه كتلةً سياسيةً متفردةً
أدلى الناخبون الأحدث سناً في المدينة، الذين يشغلون عادةً درجات وظيفية دنيا ويجنون دخلاً أقلّ ويقطنون بالإيجار، ويتسمون بنشاط أوفر في شبكات التواصل الاجتماعي وميل أشدّ للنقد الجذري للبنى القائمة، بأصواتهم لصالح ممداني بنسب تفوق كل التوقعات.
وقد كشفت دراسات العلوم السياسية وتحليلات مراكز الفكر مراراً أن الأجيال الناشئة تولي الأولوية لقضايا مثل سهولة تكاليف المعيشة، والتغيرات المناخية، والعدالة العرقية، مع تبني رؤية مغايرة للسياسة الخارجية. نجحت حملة ممداني، عبر استراتيجيةٍ قوامها توظيف وسائل التواصل الاجتماعي والتنظيم الميداني، في تحويل هذا التعاطف الكامن إلى أصوات في صناديق الاقتراع.
المسألة ليست مجرد عمر زمني؛ إنها مرحلة حياتية أيضاً تشمل وضعهم كمستأجرين، في مستهل المشوار المهني، مثقلين بأعباء ديون الدراسة، فضلاً عن نمط الثقافة السياسية ولا سيما في مجال التنظيم الرقمي وسياسة الفعل المباشر.
ج) سياسة التحالفات: اليسار المنظم + الطبقة العاملة + الوافدون الجدد + المجتمعات الملونة
برعت حملة ممداني براعةً فائقةً في نسج خيوط التحالف بين عدة فئات مؤثرة لكنها متناثرة عادةً: القاعدة التنظيمية لليسار الديمقراطي، والتكتلات العمالية وعمال قطاع الخدمات، ومنظمات المستأجرين التي تنفذ حملات تطرق أبواب المنازل، وشبكات التواصل متعددة اللغات في أحياء المهاجرين، والداعمين المالين والناشطين التقدميين حديثي العهد بالعمل السياسي.
اضطلع حزب “عائلات العمال” والشبكات المقربة من DSA بدور تنظيمي بارز في حشد الأصوات على صعيد دوائر الاقتراع، يفضي نسج التحالفات على هذا النحو إلى تحويل الوعود الانتخابية إلى التزامات ملموسة (فمثلاً، يضمن منظمو المستأجرين تنفيذ قرار تجميد الإيجار)، وهو أمر بالغ الأهمية في عاصمة بحجم نيويورك.
د) مناصرة فلسطين كعلامة فارقة في الهوية الأخلاقية
اضطلع موقف ممداني المؤازر لفلسطين وهويته كمهاجر مسلم غير أبيض بدورين محوريين، أولهما، أن هذه الرسالة مثّلت رمزاً للأصالة وإدراكاً عميقاً لتجارب الناخبين من المهاجرين والمسلمين، وثانيهما، أن هذا الموقف شكّل بالنسبة لشريحة وازنة من الناخبين التقدميين (خاصةً الشباب والناشطين)، بياناً أخلاقياً حول السياسة الخارجية الأمريكية وموقف التضامن الإنساني.
في عصرٍ يتّسم باستقطاب حاد في المجتمع، تستطيع مواقف السياسة الخارجية أن تعكس الإطار الأخلاقي الشامل للمرشح، وتعين الناخبين على استشراف مواقفه إزاء قضايا العدالة الداخلية والتضامن المجتمعي.
تكمن النقطة الجوهرية هنا في تقاطع شعار مناصرة فلسطين مع القاعدة الاجتماعية لمؤيدي ممداني، فبينما يتربع اللوبي الصهيوني في أمريكا على عرش “الدولة العميقة” متوشحاً بأردية الثروة والقدرة والإعلام، فإن شعار نصرة فلسطين الأخلاقي ليس في جوهره سوى مرآة صادقة تعكس صورة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في أمريكا نفسها، وتكشف خرائط دوائر الاقتراع وبياناتها بجلاء، أن ممداني حقّق نصراً ساحقاً في العديد من الأحياء العمالية وأحياء المهاجرين.
3. لماذا آثر الناخبون مرشحاً ديمقراطياً غير تقليدي، بدلاً من معتدل يسير على النهج المألوف؟
في المناطق التي ترزح تحت وطأة إيجارات باهظة، واعتماد مفرط على وسائل النقل العام، وتكاليف مرهقة لرعاية الأطفال، يزن الناخبون المرشحين بميزان قدرتهم على تغيير ظروف الحياة الملموسة، ارتبطت وعود ممداني ارتباطاً وثيقاً بهذه الأعباء اليومية؛ بينما المعتدلون، الذين أولوا جُل اهتمامهم للكفاءة الإدارية أو النمو الاقتصادي القائم على مصالح قطاع الأعمال، عجزوا عن تقديم حلول ناجزة.
أكدت أدبيات العلوم السياسية المتخصصة في سلوك التصويت الحضري هذا النمط مراراً وتكراراً: حين تكون المشكلات الحضرية ملموسةً ومركزةً، يميل الناخبون إلى تأييد سياسات إعادة التوزيع المباشر والضبط التنظيمي.
والمسألة الأخرى تتمثّل في الإجابة عن سؤال الانفصال عن الولاء الحزبي وترسيخ الثقة على مستوى المرشح نفسه.
فقد الكثير من الناخبين الشباب والأفراد المتحررين من الانتماءات الحزبية، ثقتهم في آليات العمل الحزبي التقليدية. بالنسبة لهؤلاء، يحظى المرشحون من خارج دوائر النفوذ أو المناهضون للمؤسسة القائمة، ممن تضرب جذورهم في تربة النشاط المحلي الحقيقي، بمصداقية تفوق السياسيين المعتدلين الذين يبدون كأدوات في يد أصحاب المصالح المالية أو المؤسسات الأمنية، وقد كشفت الدراسات الحديثة أن الأجيال الناشئة أشدّ ريبةً في المؤسسات العريقة كالأحزاب الكبرى.
قد يتكئ المرشحون التقليديون على الشهرة العامة والولاء الحزبي، غير أن حملة ممداني، باستثمارها في التنظيم المحلي والحضور الفاعل في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، نجحت في تحويل تعاطف الناخبين إلى أصوات حقيقية في صناديق الاقتراع، وتبرز بيانات استطلاعات الرأي عند الخروج والتقارير الإعلامية، أن ممداني تفوق في المناطق ذات المشاركة المرتفعة، ولا سيما بين المستأجرين وجموع الناخبين من فئة الشباب.
ولا ينبغي إغفال هويته كمسلم ومهاجر وصاحب بشرة ملونة، فبالنسبة لشريحة واسعة من الناخبين، ولا سيما المهاجرين والأقليات العرقية وشباب الجيل Z، فإن اختيار عمدة يعكس بجلاء هويتهم وموقفهم الأخلاقي، يمثّل في حد ذاته قيمةً ديمقراطيةً ساميةً، وقد أذكت القوة الرمزية لانتخاب أول عمدة مسلم للمدينة، جذوة الحماس وضاعفت التبرعات المالية وحفزت مشاركة ناخبين ظلوا لسنوات طوال بمنأى عن المشاركة السياسية.
4. دور الإعلام، التضليل المعلوماتي وحملات التشويه
شنّ منتقدو ممداني حملات دعائية شرسة ضده، وحاولوا إظهار مواقفه بمظهر التطرف والخطورة، وبصفة خاصة، اضطلع ترامب شخصياً بدور محوري في تعزيز شهرة ممداني ورفع أسهم شعبيته من خلال هجماته الحادة عليه، ونعته بالشيوعي والمؤيد لحماس وغير ذلك من النعوت.
5. ماذا تقول تحليلات مراكز الفكر وعلماء الاجتماع ومنابر الإعلام؟
تذهب مراكز فكرية مرموقة مثل بروكينغز إلى أن إحدى الديناميات المحورية للمشهد السياسي الأمريكي في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تتمثّل في إعادة الترتيب الجيلي حول القضايا الاقتصادية والثقافية: فالأجيال الناشئة أكثر تقبلاً للإصلاحات الهيكلية (الملكية العامة، شبكات دعم أمتن) وأقل تقيداً بالأرثوذكسية الحزبية؛ وهو وضع يفسّر سر جاذبية ممداني الطاغية.
يشدد الباحثون المتخصصون في الشؤون الحضرية في CUNY ومراكز مماثلة، على الدور المحوري للمؤسسات المحلية (اتحادات المستأجرين، المجالس المحلية، مجالس العمال) في تحويل الوعود السياسية إلى التزامات تنفيذية جديرة بالثقة، ينبّه هؤلاء الباحثون إلى أن مصداقية المرشحين في نيويورك باتت تعتمد بصورة متزايدة على سجلهم في العمل التنظيمي وقدرتهم على تنفيذ البرامج الحضرية؛ وهي ميزة عزّزها ممداني بخلفيته الثرية في مجال استشارات الإسكان وتنظيم صفوف المستأجرين.
تؤكد التحليلات الإعلامية الصادرة عن منابر مرموقة (الغارديان، رويترز، تايم، بوليتيكو) أيضاً رواية التحالف الواسع من خلال عرض خرائط دوائر الاقتراع، وبيانات استطلاعات الرأي عند الخروج، والمعلومات المالية للحملة: مبرزة قوة نفوذه في الأحياء العمالية المتنوعة وبين أوساط الناخبين الشباب، كما وثّقت هذه المصادر البعد الثقافي والرمزي لانتصاره المدوي.
6. ماذا يكشف هذا الاختيار عن طبيعة المجتمع الأمريكي في العصر الراهن؟
يمثّل انتخاب زهران ممداني لحظةً فارقةً في مسار السياسة الحضرية الأمريكية: إذ يؤكد هذا الانتصار قوة الترابط بين الهوية والموقف الأخلاقي من جهة ووعود العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، فضلاً عن العبور التدريجي للجيل الأمريكي الصاعد من قيود الهيكل السياسي التقليدي القائم على نظام الحزبين، ويبرهن هذا الفوز الكاسح على أن المدن الأمريكية تحولت الآن إلى مختبرات للسياسات التقدمية التي لن تلبث نتائجها أن تفيض على المستوى الوطني في المستقبل القريب.
