الوقت – في غمرة المساعي الإقليمية والدولية لإرغام الكيان الصهيوني على صون وقف إطلاق النار في غزة والوفاء بما التزم به في الاتفاق، أصدر وزير الحرب في هذا الكيان بياناً أعلن فيه المنطقة الحدودية مع مصر “منطقةً عسكريةً محظورةً” متذرعاً باستخدام المسيّرات في تهريب الأسلحة.
وأعلن يسرائيل كاتس، وزير دفاع الكيان يوم الخميس (5 نوفمبر 2025) أنه أوعز للجيش بتحويل المنطقة المتاخمة للحدود مع مصر إلى “نطاق عسكري محظور” للتصدي لما وصفه بتهريب الأسلحة عبر الطائرات المسيّرة.
وأردف قائلاً: “إن تهريب الأسلحة بواسطة المسيّرات يشكّل جزءاً من المعركة الدائرة في غزة ويرمي إلى تسليح أعدائنا، ويتعين اتخاذ كل التدابير المتاحة لوضع حدٍ له”.
تمتد الحدود المشتركة بين فلسطين المحتلة ومصر لمسافة تناهز 200 كيلومتر، وفي يوم الأحد (1 نوفمبر)، زعم جيش الاحتلال أنه رصد مسيّرةً “اجتازت من الجهة الغربية إلى أراضي "إسرائيل" فلسطين المحتلة بغية تهريب أسلحة”، وادعى الجيش أن قواته اعترضت هذه المسيّرة التي كانت تحمل ثماني قطع سلاح وأحبطت مهمتها.
كما ادعى جيش الكيان يوم الثلاثاء (3 نوفمبر) أنه أجهض عملية تهريب أخرى من خلال اعتراض مسيّرة محمّلة بعشرة مسدسات “عبرت من الحدود الشرقية” إلى أراضي الكيان، وتجدر الإشارة إلى أن فلسطين المحتلة تشترك في حدودها الشرقية مع الأردن.
بيد أن المسعى الجديد الذي أقدمت عليه حكومة الاحتلال ليس مجرد رد فعل على بضع مسيّرات محمّلة بالأسلحة، بل ينطوي على أبعاد بالغة الأهمية من المقاصد الأمنية والسياسية والإقليمية والدبلوماسية.
1. تسويغ استمرار الحصار والتضييق
يسعى الكيان الصهيوني في المقام الأول إلى تبرير عدوانه المتواصل على غزة وخرقه لوقف إطلاق النار، ومواصلة تحقيق غايات عملياته العسكرية المخفقة في غزة بذرائع شتى، والحيلولة دون أن يتنسم أهل غزة نسائم الهدوء والحرية.
تتوق تل أبيب إلى نزع سلاح حماس وتحويل غزة إلى بقعة مسلوبة القدرة الدفاعية؛ وهو ما عجزت عن إدراكه في الحرب رغم تقويض جميع البنى التحتية في هذا الشريط، وتسعى الآن بالتواطؤ مع الولايات المتحدة والأنظمة العربية المنبطحة إلى تحقيقه في المسار السياسي لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، ومن أبرز حيل الكيان توظيف ورقة الحصار لانتزاع المزيد من التنازلات من المقاومة في هذه المرحلة أيضاً، ومن الواضح أن الصهاينة يتذرعون بوصول الأسلحة إلى حماس لتسويغ عدم تنفيذ بند رفع الحصار والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية على نطاق واسع دولياً.
وتأكيداً لذلك، صرح المكتب الإعلامي لحكومة غزة يوم الخميس أنه منذ سريان وقف إطلاق النار، لم يدخل إلى غزة سوى 4453 شاحنة من أصل 15600 شاحنة مطلوبة - أي بنسبة لا تتجاوز 28٪، وأوضح المكتب: “إن متوسط عدد الشاحنات التي تدخل غزة يومياً منذ بدء وقف إطلاق النار لا يتعدى 171 شاحنة، من أصل 600 شاحنة من المفترض أن تعبر يومياً وفق البروتوكول الإنساني”، وأضاف المكتب إن "إسرائيل" تحول دون دخول السلع الأساسية والأغذية المغذية، بما فيها البيض واللحوم الحمراء والدجاج والأسماك والخضروات ومنتجات الألبان، بينما تسمح بدخول مواد “عديمة القيمة الغذائية” كالأطعمة المصنعة والشوكولاتة والشيبس والمشروبات الغازية.
يسعى الصهاينة إلى بثّ رسالة فحواها أن وقف إطلاق النار ما هو إلا فسحة زمنية تتيح لحماس وسائر فصائل المقاومة إعادة ترميم ترسانتها، وبذلك يبررون تنصلهم من ضرورة الانسحاب العسكري الكامل من غزة.
2. الضغط على مصر والأردن بتضخيم المخاوف الأمنية الحدودية
تعمد "إسرائيل" إلى تضخيم “عجز” أو حتى “التقصير المتعمد” من جانب مصر والأردن في كبح تهريب الأسلحة إلى غزة، ناسجةً بذلك سرديةً جديدةً؛ سردية لا ترى فيها تل أبيب نفسها مقيدةً بالالتزام الكامل بالمعاهدات الثنائية والقرارات الدولية المتعلقة بالضبط الأمني لمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، وتتيح هذه السردية لـ "إسرائيل" أن تزعم أنه حين تعجز الأطراف العربية أو تتقاعس عن تنفيذ التزاماتها الأمنية، فإن من حق تل أبيب أن تأخذ زمام المبادرة منفردةً.
يتطلع الكيان الصهيوني منذ أمد بعيد إلى بسط هيمنة أوسع على ممر فيلادلفيا (الشريط الحدودي بين غزة ومصر)؛ وإغلاق المسالك المحتملة للأنفاق والتهريب، وإحكام الخناق على حماس في جنوب غزة.
وعلى هذا المنوال، يجهد الصهاينة لترسيخ شرعية “توسيع الوجود العسكري” على امتداد صحراء سيناء والحدود مع الأردن من خلال هذه الاتهامات المرتبطة بالتهريب، وقد نُسجت الحملة الإعلامية لتضخيم هذه الحوادث بحرفية تجعل الرأي العام والأطراف الخارجية تسلم بفكرة أن مصر تفتقر إلى السيطرة الكافية على صحراء سيناء، وأن "إسرائيل" ليس أمامها من مناص سوى الإشراف المباشر على الحدود “لدرء المخاطر المحدقة”.
وفي المحصلة، ما تصبو إليه تل أبيب هو نقل السيطرة التدريجية على حركة التنقل عبر حدود غزة-مصر وكذلك أجزاء من الحدود الأردنية إلى قبضة الجيش الإسرائيلي. وهذا يعني أن حركة العبور في هذه المناطق ستجري مستقبلاً ليس وفق ترتيبات مشتركة أو إشراف متعدد الأطراف، بل تحت هيمنة مباشرة من الجيش الصهيوني؛ وهو مسعى يفرغ روح الاتفاقيات السابقة من جوهرها ويُدخل الحدود الجنوبية والشرقية في حقبة من “الإدارة الأحادية” من قبل "إسرائيل".
3. اختلاق ذريعة قانونية وعسكرية لاستمرار حصد أرواح المدنيين
إن إعلان “تعديل قواعد الاشتباك” من جانب وزير دفاع الكيان الصهيوني، يعني في حقيقة الأمر اختلاق ذريعة قانونية وعسكرية جديدة لمواصلة وتصعيد إزهاق أرواح المدنيين، فتحويل الحدود المصرية إلى “نطاق عسكري محظور”، يمنح جيش الاحتلال سلطة الرد بإطلاق النار المباشر على أدنى شبهة في أي تحرك حدودي، ونشر المزيد من القوات في الشريط الحدودي، واستخدام المسيّرات والمقاتلات على مسافة قريبة للغاية من رفح وصحراء سيناء، دون أن يتحمل أدنى مسؤولية عن الخسائر في صفوف المدنيين، وتفضي هذه التحولات عملياً إلى إطلاق يد الجيش في أحد أكثر البؤر الجغرافية حساسيةً في ساحة الصراع، وتمهد السبيل لتنفيذ عمليات أشدّ ضراوةً وتحرراً من القيود.
4. توجيه رسالة سياسية للداخل وتعزيز شوكة اليمين المتطرف
تحمل هذه التصريحات في طياتها استهلاكاً داخلياً أيضاً، فمن ناحية، تهدف إلى تخفيف سخط الشخصيات المتشددة في الحكومة مثل بن غفير من قبول وقف إطلاق النار من خلال إبقاء جذوة الضغط العسكري على غزة متقدةً.
وتعد مبادرة بن غفير إلى “الإشادة” بهذا المسعى مؤشراً ذا دلالة، فقد أشاد إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي والمناوئ الشرس لوقف إطلاق النار والانسحاب العسكري من غزة، بقرار كاتس في منشور على شبكة إكس (X)، قائلاً إنه “أدرك أن التهريب الذي يجري هناك يخدم مآرب إرهابية”.
وتنطوي هذه الخطوة لحكومة نتنياهو على عدة رسائل:
إظهار “الهيبة الأمنية” لمجتمعٍ أصابه بعد الحرب وهن الثقة جراء إخفاق الجيش في غزة، وموجة هجرة عكسية ويأس من المستقبل زلزلت أركان بقاء الكيان.
كما أن ثمة تنافساً محموماً على السلطة بين أقطاب السياسة داخل طيف اليمين في المجتمع الصهيوني لإبراز “من هو الأشدّ بأساً”، وفي ظل تداول همسات حول احتمال إعلان نتنياهو انتخابات مبكرة، فإن هذا المسعى يتجاوز كونه عسكرياً محضاً ليكتسي بُعداً انتخابياً وداخلياً أيضاً.
ومن ناحية أخرى، تسعى حكومة نتنياهو إلى الارتقاء بحرب غزة من مستوى صراع ثنائي مع حماس، إلى تصويرها كشبكة إقليمية متعددة المستويات ترفد حماس بالأسلحة من الخارج، وبذلك تخفف من وطأة هزيمتها النكراء في الحرب المستعرة منذ عامين، وبهذه المناورة، تحاول "إسرائيل" أن توحي بأن الحرب ليست مع جماعة محاصرة، بل مع “شبكة” متشعبة الأطراف.
وفي نهاية المطاف، من خلال الترتيبات التي يتخذها الكيان على حدود رفح لترسيخ وجوده الاحتلالي المتغطرس في غزة والحيلولة دون رفع الخناق الاقتصادي وإعادة إعمار هذا الشريط، فإن اتفاق شرم الشيخ وخطة ترامب للسلام تتعرض في واقع الأمر للإفراغ من مضمونها على يد الصهاينة، الذين ما فتئوا يسعون إلى تكريس واقع الاحتلال وإدامة معاناة الشعب الفلسطيني.
