الوقت- في تصريحٍ أثار موجةً من الجدل، شبّه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومستشاره في شؤون الشرق الأوسط، ما شاهده في قطاع غزة بمشهدٍ يبدو وكأن قنبلةً نووية قد انفجرت فيه، قال كوشنر إن الدمار في غزة يفوق الوصف وإن المنظر كان مؤلماً للغاية، في اعترافٍ نادر من شخصيةٍ أميركية كانت جزءاً من الإدارة التي ساندت "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً طوال سنوات.
وصف كوشنر أثار انتباه المراقبين، ليس فقط لواقعيته، بل لأنه صدر من رجلٍ يُعد أحد مهندسي صفقة القرن التي منحت "إسرائيل" غطاءً لتوسيع نفوذها وتهميش القضية الفلسطينية في الخطاب الدولي.
اعتراف بالمأساة دون تحمّل المسؤولية
ما قاله كوشنر لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للموقف الأميركي من الحرب على غزة، فحين يشبّه مسؤول سابق على هذا المستوى الدمار بانفجار نووي، فهو في الواقع يقدّم وصفاً دقيقاً للكارثة الإنسانية التي لحقت بالقطاع، حيث سويت أحياء كاملة بالأرض، وانهارت البنية التحتية الصحية والتعليمية، وتحوّل المشهد إلى أطلال.
لكن المفارقة أن هذا الوصف يأتي من رجلٍ شارك في صناعة السياسات التي مهّدت لهذا الواقع، فإدارة ترامب، التي كان كوشنر أحد أبرز وجوهها في الشرق الأوسط، تبنّت مواقف منحازة بالكامل لـ"إسرائيل"، بدءاً من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومروراً بقطع المساعدات عن وكالة الأونروا، وانتهاءً بتشجيع التطبيع العربي مع "إسرائيل" دون أي التزامٍ حقيقي بإنهاء الاحتلال أو تحسين حياة الفلسطينيين.
غزة بين الحقيقة والإنكار
من الناحية الواقعية، ما وصفه كوشنر ليس بعيداً عن الحقيقة؛ فغزة اليوم مدينةٌ مدمّرة بكل المقاييس، تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية تشير إلى أن أكثر من 60% من مباني القطاع قد تضررت أو دمرت بالكامل.
ولكن ما يغيب عن تصريح كوشنر هو الفاعل الحقيقي وراء هذا المشهد النووي، فالدمار لم ينزل من السماء صدفة، بل كان نتيجة حملةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ عنيفة استخدمت فيها القنابل الثقيلة والأسلحة المحرّمة دولياً تحت ذرائع الدفاع عن النفس.
لذلك فإن القول إن غزة تبدو كأنها تعرّضت لقنبلة نووية هو توصيف صادق من حيث الشكل، لكنه ناقص من حيث المضمون، لأن من وصف الكارثة تجاهل أن الإدارة التي خدم فيها كانت من بين من شرعنوا هذا الخراب وسكتوا عنه، بل دعموه دبلوماسياً في المحافل الدولية.
من شاهدٍ إلى شريك
حين ينظر كوشنر إلى غزة ويصفها بالمأساة، فإنه يتحدث بلسان من شاهد النتيجة لا من ساهم في رسم الطريق إليها، فهو كان العقل المدبّر لما سُمي صفقة القرن، وهي خطة اعتبرها الفلسطينيون محاولةً لطمس حقوقهم السياسية، وتكريس واقع الاحتلال، تلك الخطة، بتفاصيلها الاقتصادية والسياسية، كانت تهدف إلى دمج "إسرائيل" في المنطقة العربية دون أي ثمنٍ حقيقي للفلسطينيين، وبذلك، يمكن القول إن كوشنر، بطريقةٍ غير مباشرة، ساهم في تعزيز الشعور الإسرائيلي بالإفلات من المحاسبة، وهو ما شجّع تل أبيب على التمادي في سياساتها العدوانية ضد غزة.
تصريحه الأخير، إذن، يمكن اعتباره نوعاً من الاعتراف الضمني بالفشل الأخلاقي والسياسي للسياسات الأميركية السابقة، حتى وإن لم يُصرّح بذلك علناً.
ترامب ونتنياهو: وجهان لسياسة واحدة
يذكّر تعليق كوشنر أيضاً بالدور الذي أدّاه كلٌّ من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في صياغة هذه المأساة، فقد شكّل الرجلان تحالفاً وثيقاً خلال فترة ترامب الرئاسية، كان هدفه توسيع الهيمنة الإسرائيلية وتهميش القضية الفلسطينية.
ترامب منح نتنياهو كل ما أراد سياسياً: اعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووقف المساعدات عن الفلسطينيين، ونتنياهو استغل ذلك ليُمعن في بناء المستوطنات وتشديد الحصار على غزة.
لذلك، فإن من العدل أن يُوجّه كوشنر نظره لا إلى أنقاض غزة فحسب، بل أيضاً إلى أولئك الذين ساهموا في تحويلها إلى أنقاض — أي نتنياهو وترامب، اللذين شكّلا تحالفاً سياسياً أنتج واحدة من أكثر المراحل ظلمةً في تاريخ القضية الفلسطينية.
بين الحقيقة والسياسة
اللافت في تصريح كوشنر أنه يأتي في لحظةٍ يشهد فيها الرأي العام الغربي تحوّلاً متزايداً في الموقف من الحرب على غزة، فصور الأطفال تحت الركام، والمستشفيات المدمّرة، واللاجئين الذين فقدوا كل شيء، جعلت من الصعب على أي سياسيٍ أن يتجاهل الحقيقة الكارثية.
ربما أراد كوشنر أن يبدو إنسانياً أو متعاطفاً، لكن تصريحاته لا يمكن فصلها عن إرثه السياسي، الذي كان جزءاً من منظومةٍ رأت في الفلسطينيين عقبةً أمام السلام بدلاً من كونهم ضحايا احتلالٍ طويل، إن وصفه للمشهد على أنه مؤلم للغاية صحيح من الناحية الإنسانية، لكنه يظل ناقضاً لمواقفه السابقة التي ساهمت في خلق هذا الألم.
رؤية صادقة... لكنها ناقصة
قد يكون كوشنر محقاً في قوله إن غزة تشبه مدينةً ضربتها قنبلة نووية، فالمشهد بالفعل مأساوي ويختزل عمق المعاناة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.
لكن ما يغيب عن تصريحه هو الإقرار بالمسؤولية السياسية والأخلاقية عن تلك الكارثة، سواء من جانب "إسرائيل" التي نفّذت القصف، أو من جانب إدارة ترامب التي منحتها الضوء الأخضر.
تصريحه، بهذا المعنى، يُعد اعترافاً متأخراً بالحقيقة، لكنه يظل ناقصاً ما لم يتبعه وعيٌ حقيقي بمسؤولية السياسات الأميركية والإسرائيلية عن مآسي الفلسطينيين.
غزة ليست فقط مشهداً مدمراً، بل مرآةٌ تكشف عجز العالم عن محاسبة من دمّرها وهي الحقيقة التي ربما لم يدركها كوشنر بعد.