الوقت- تشهد الساحة السياسية والإعلامية هذه الأيام جدلًا واسعًا حول مشروع غربي – أمريكي لإنشاء قوة دولية تتولى الأمن في قطاع غزة، في خطوة توصف بأنها تهدف إلى "إعادة الاستقرار" بعد سنوات من جرائم الكيان الصهيوني المدعوم امريكاً، غير أن جوهر هذا المشروع يثير تساؤلات جوهرية حول السيادة والحق الفلسطيني في إدارة شؤونه الداخلية دون وصاية خارجية، فبينما تروج بعض القوى لفكرة أن الوجود الدولي في غزة سيضمن الأمن ويمنع التصعيد، يرى كثير من المراقبين أن مثل هذه المبادرات قد تكون غطاءً لتكريس واقع جديد، يُقصي الفلسطينيين عن إدارة أرضهم، ويضع مستقبل القطاع في يد قوى أجنبية، إن الحديث عن “إعادة الإعمار” و”ضمان الأمن” لا يمكن أن ينفصل عن الحق الطبيعي لأهالي غزة في تقرير مصيرهم، والحفاظ على سيادتهم السياسية والأمنية بعيدًا عن أي ترتيبات تُفرغ مفهوم الاستقلال من مضمونه الحقيقي.
خلفيات المشروع الدولي في غزة
تسعى الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية إلى الدفع بمشروع قرار في مجلس الأمن يقضي بتشكيل قوة دولية لحفظ السلام في غزة، تقودها مصر وتشارك فيها دول مثل تركيا وإندونيسيا وأذربيجان، ويُقدَّم المشروع في الإطار الدبلوماسي على أنه مبادرة لضمان الأمن وإعادة بناء المؤسسات المدنية بعد الحرب، لكن بين سطور هذا الطرح يبرز بوضوح هدف آخر: إعادة تشكيل إدارة القطاع وفق رؤية تتوافق مع المصالح الغربية والإسرائيلية.
إن فكرة "القوة الدولية" ليست جديدة، فقد طُبّقت نماذج مشابهة في أماكن عدة كهايتي وكوسوفو، لكن النتائج غالبًا ما كانت مثيرة للجدل، إذ تحولت تلك القوات في حالات كثيرة إلى أدوات ضغط سياسي، ووسائل لتثبيت واقع احتلالي أو نفوذ خارجي، في الحالة الغزّية، تبدو المخاوف أكبر، لأن المشروع المطروح يتجاوز الدور الأممي التقليدي في حفظ السلام، ليتحول إلى قوة "حفظ استقرار" خارج الإشراف الكامل للأمم المتحدة، ما يجعلها أداة محتملة لإعادة رسم المشهد السياسي والأمني في غزة وفق ترتيبات لا تعكس الإرادة الفلسطينية.
السيادة الفلسطينية بين التهديد والتهميش
إن أخطر ما يحمله هذا المشروع هو المساس بمفهوم السيادة الوطنية الفلسطينية. فغزة، رغم معاناتها من الحصار والانقسام، تظل أرضًا فلسطينية لا يمكن إخضاعها لوصاية دولية أو لتدخل عسكري أجنبي مهما كانت المسميات، فالقضية هنا ليست فقط من سيتولى الأمن، بل من يملك الشرعية لقيادة هذا الملف، لا يوجد أي مبرر قانوني أو سياسي يجعل من المنطقي أن تُدار غزة من خارجها، فالأمن الفلسطيني يجب أن يكون بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، وتحديدًا أبناء غزة الذين يدركون تعقيدات واقعهم أكثر من أي جهة خارجية.
إن تحويل ملف الأمن إلى قوة دولية مستقلة يعني فعليًا تجريد الفلسطينيين من أدواتهم السيادية، وفتح الباب أمام تدخلات تُملي عليهم قرارات سياسية تمس جوهر كفاحهم الوطني، لا يمكن تحقيق السلام والاستقرار في غزة عبر تجاهل سكانها وإقصائهم عن مواقع القرار، بل يجب أن تكون أي ترتيبات أمنية خاضعة بالكامل لإرادة فلسطينية، مدنية وسياسية، تمثل الشعب وتعمل لمصلحته الحقيقية.
دور المراقبين الدوليين وحدودهم المشروعة
لا أحد يعارض مبدأ الرقابة الدولية عندما تكون في إطار دعم الشفافية والمساعدة الفنية، ولكن يجب أن يكون دور المراقبين الدوليين خادمًا للمنظومة الفلسطينية الحاكمة في غزة، وليس بديلاً عنها أو متحكمًا فيها، إن وجود مراقبين أو مستشارين أجانب يمكن أن يسهم في تنظيم عمليات إعادة الإعمار، وتنسيق الجهود الإنسانية، لكنه لا ينبغي أن يمتد ليشمل القرار الأمني أو السيادي، المطلوب اليوم هو نموذج شراكة يحترم السيادة الفلسطينية، بحيث يكون الإشراف الخارجي مقيدًا وواضح الحدود، ويعمل تحت إشراف حكومة فلسطينية منتخبة أو إدارة محلية شرعية في غزة، إن تجاوز هذا الإطار سيحول “المراقبة” إلى “وصاية”، و”المساعدة” إلى “هيمنة”، وهو ما سيؤدي إلى تعقيد المشهد بدلاً من حله، كما أن أي قوة أجنبية لا تملك جذورًا اجتماعية أو سياسية داخل غزة لن تستطيع فهم تركيبة المجتمع ولا توازناته الحساسة، ما يجعل وجودها عامل توتر دائم، لا مصدر استقرار كما يُروّج له.
نحو رؤية فلسطينية تحفظ الحقوق وتضمن الاستقرار
إن السبيل الحقيقي لاستقرار غزة لا يمر عبر القوات الدولية ولا عبر الخطط المفروضة من الخارج، بل عبر بناء منظومة أمنية وإدارية فلسطينية خالصة تنبع من إرادة أبناء القطاع وتخضع لمؤسساتهم الوطنية، إن تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم هو الضمان الوحيد لحماية حقوقهم وتثبيت حالة الأمن المستدام.
كما أن إشراك جميع القوى الوطنية في صياغة رؤية موحدة لإدارة غزة – بعيدًا عن الحسابات الحزبية والضغوط الخارجية – سيُعيد الثقة الداخلية ويغلق الباب أمام التدخلات الأجنبية، إن هذا النموذج المحلي المدعوم رقابيًا فقط من الخارج، يمكن أن يوفّر صيغة متوازنة تجمع بين الاستقلال والسيطرة الذاتية من جهة، والرقابة الدولية المحدودة من جهة أخرى.
وإذا ما نجحت هذه الصيغة في ترسيخ الأمن من الداخل، فستكون خطوة أساسية نحو تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتمهيد الطريق لإقامة دولة فلسطينية موحدة، تضم الضفة الغربية والقدس الشرقية، وتتحرر من كل أشكال الوصاية أو الاحتلال المقنّع تحت اسم “حفظ السلام”.
في النهاية، إن مستقبل غزة يجب أن يُرسم بأيدي أبنائها لا بأقلام المانحين أو جنود البعثات الدولية. فالتجارب التاريخية أثبتت أن أي مشروع أمني أو سياسي يُفرض من الخارج يفشل في تحقيق الاستقرار الحقيقي، لأنه يتجاهل جوهر المسألة: الحق في تقرير المصير والسيادة الوطنية، لا يمكن لأي قوة مهما بلغت إمكانياتها أن تزرع الأمن في أرض تُدار بغير إرادة أهلها، إن الحل الواقعي والعادل يكمن في تمكين الفلسطينيين من إدارة أمنهم بأنفسهم، واعتبار أي دعم خارجي مجرد عامل مساعد لا بديل عن القيادة المحلية. بذلك فقط يمكن لغزة أن تحافظ على هويتها، وتحمي حقوق شعبها، وتضمن لنفسها مكانة مستقلة في معادلة المنطقة، بعيدًا عن أي وصاية أو احتلال جديد تحت ستار “الاستقرار الدولي”.