الوقت- في مشهد يعكس عمق التناقضات التي تعيشها الساحة السورية والدولية، وجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد: أبو محمد الجولاني، الذي كان إلى وقت قريب على رأس قوائم الإرهاب الدولية، أصبح اليوم رئيساً للمرحلة الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، هذا التحول المذهل لا يثير الدهشة فحسب، بل يفتح باباً واسعاً للتساؤل حول المعايير التي تتحكم في صناعة الشرعية في عالم اليوم.
قبل أعوام قليلة فقط، كانت التقارير الدولية تصف الجولاني بأنه مسؤول عن مئات الجرائم ضد المدنيين، وبأنه يقود أحد أكثر التنظيمات تشدداً في المنطقة، واليوم، يجلس الرجل نفسه على كرسي الحكم في دمشق، فيما تُزال اسمه من قوائم الإرهاب وكأن شيئاً لم يكن، فهل تغير الجولاني فعلاً، أم إن العالم هو من غيّر تعريفه للإرهاب؟
حكومة مؤقتة... وعقلية دائمة من الإقصاء
منذ تولي الجولاني رئاسة المرحلة الانتقالية، لم تظهر أي مؤشرات حقيقية على التغيير أو الإصلاح، فالحكومة التي يُفترض أن تكون بداية لنهضة سوريا الجديدة، تبدو عاجزة عن إدارة أبسط شؤون البلاد، البنية التحتية ما زالت منهارة، الاقتصاد في أسوأ حالاته، والفساد الإداري يعيد إنتاج ذاته تحت عناوين جديدة.
لكن الأخطر من ذلك هو النهج الإقصائي الذي تتبعه هذه الحكومة تجاه الأقليات السورية، فالتقارير المحلية تتحدث عن تضييق واضح على المسيحيين والعلويين والأكراد، وعن سياسات تمييز تمارسها الأجهزة التابعة للجولاني بحجة الأمن الوطني، بهذا المعنى، فإن المرحلة الانتقالية التي كان يُنتظر منها أن توحد السوريين، تحولت إلى ساحة جديدة للهيمنة والانقسام.
لقد وعد الجولاني بأنه سيقود سوريا نحو السلام، لكنه حتى الآن يقودها نحو نسخة معدلة من الفوضى السابقة، فالحكم تغيّر شكلياً، أما الأسلوب فبقي ذاته: سلطة بالسلاح، وقمع باسم الاستقرار، وتبرير لكل خطأ بدعوى الظروف الصعبة.
ازدواجية الأمم المتحدة: من تصنيف الإرهاب إلى صناعة الزعماء
لا يمكن قراءة هذا التحول بمعزل عن الدور الدولي الذي سمح به، فالأمم المتحدة، التي أزالت اسم الجولاني من قوائم الإرهاب، كانت تعلم جيداً أن الرجل لم يقدّم مراجعة فكرية ولا تنازلاً عن ماضيه الدموي، ومع ذلك، فُتح له الباب ليتصدر المشهد السياسي الجديد، هذه الخطوة ليست مجرد قرار إداري، بل إعلان رسمي بأن المعايير الإنسانية يمكن أن تُلغى حين تتغير المصالح السياسية.
إن هذا الموقف يعيد طرح السؤال القديم الجديد: هل الأمم المتحدة مؤسسة لحماية العدالة أم منصة لتصفية الحسابات الدولية؟ حين يتحول المطلوب دولياً إلى شريك في العملية السياسية، يصبح الحديث عن القانون الدولي نوعاً من السخرية، لقد أثبتت التجربة أن من يرضى عنه الكبار يمكن أن يُغسل تاريخه بسهولة، مهما كان ملوثاً بالدم.
الضحايا بلا صوت والمجرمون بألقاب رسمية
الجانب الأكثر مأساوية في هذه المعادلة هو غياب العدالة للضحايا، فالملايين الذين عانوا من أفعال التنظيمات المسلحة، ومن بينها جماعة الجولاني، لم يحصلوا على أي إنصاف. لم تُفتح ملفات المحاسبة، ولم تُوثق الجرائم بشكل شفاف، وكأن التاريخ يُعاد كتابته على عجل ليناسب المرحلة الجديدة.
كيف يمكن لمنظمة دولية أو حكومة انتقالية أن تتحدث عن مستقبل أفضل وهي تتجاهل الماضي؟ كيف يمكن للجولاني أن يطالب العالم بدعم سوريا الجديدة وهو لم يعتذر عن سوريا التي دمرها؟ إن تجاهل العدالة لا يصنع استقراراً، بل يؤسس لجولة جديدة من الغضب والعنف، فالبلد الذي لا يُحاسب جلاديه، لا يمكن أن ينهض من رماده، لأن الجرح يبقى مفتوحاً مهما تغيرت الشعارات.
مستقبل غامض تحت راية الانتقال
لا تبدو ملامح المرحلة الانتقالية التي يقودها الجولاني مطمئنة بأي شكل، فبدل أن تكون مرحلة للوفاق الوطني وبناء المؤسسات، أصبحت حقل اختبار لتثبيت سلطة جديدة تحت غطاء الشرعية الثورية. لا دستور واضح، ولا خطة اقتصادية، ولا التزام فعلي بحقوق الإنسان. كل ما هناك خطاب سياسي مموّه يحاول إقناع الداخل والخارج بأن الجولاني هو رجل الدولة الجديد، بينما الواقع يقول إنه ما زال أسير عقلية الفصيل والسلاح.
حتى المجتمع الدولي، الذي كان يُفترض أن يراقب المرحلة الانتقالية ويدعم تحولها الديمقراطي، يتعامل ببرود مريب، كأن العالم قرر أن يقايض السوريين بين استبدادين: أحدهما انتهى بسقوط النظام، والآخر بدأ بثوب المرحلة الانتقالية.
سقوط المعايير وصعود المفارقة
إن قصة الجولاني تختصر مأساة العدالة في هذا العصر: من قائد لتنظيم مصنف إرهابياً إلى رئيس للمرحلة الانتقالية في بلد دُمّر جزئياً بسبب أفعاله، وبين هذين المشهدين، يضيع دم الأبرياء وتضيع الحقيقة.
ليس السؤال اليوم هل تغيّر الجولاني، بل هل تغيّر العالم من حوله؟ وهل بات الإرهاب وجهة نظر قابلة للتفاوض؟ يبدو أن الإجابة المؤلمة هي نعم. فحين يصبح الجلاد رئيساً، والضحية منسياً، يمكننا أن نعلن رسمياً أن العدالة الدولية قد فشلت في امتحانها الأكبر.
لقد خرج الجولاني من قوائم الإرهاب، لكنه لم يخرج من ذاكرة السوريين ولا من سجلّ التاريخ، فالمناصب قد تغيّر المظهر، لكنها لا تمحو الأثر، وما لم تُبنَ سوريا الجديدة على المحاسبة والعدالة، فإنها ستظل تسير في دائرة مغلقة، تتبدل فيها الأسماء وتبقى المأساة هي ذاتها.