الوقت- منذ أكثر من عامين والعدوان الصهيوني على غزة يواصل حصد الأرواح وتدمير الحجر والبشر، فيما تقف الأنظمة العربية أمام اختبار تاريخي يحدد موقعها الحقيقي من القضية الفلسطينية، في هذا السياق، طُرح مؤخرًا مشروع أمريكي بقيادة وزير الخارجية، يتضمن نشر قوات عربية في قطاع غزة "لحفظ الأمن وضمان إدخال المساعدات الإنسانية"، لكن ما يثير القلق هو غياب موقف عربي رسمي واضح بالرفض، والاكتفاء بالتصريحات الغامضة أو الصمت الذي قد يُفسَّر باعتباره قبولًا ضمنيًا، هذا الغموض يفتح الباب للتساؤل: هل يمكن أن تقبل الأنظمة العربية بتحويل جيوشها إلى أدوات لحماية الاحتلال الإسرائيلي، بدلًا من دعم صمود الشعب الفلسطيني؟ إنّ مثل هذا الطرح ليس مجرد خيار سياسي عابر، بل مسألة مصيرية تمس جوهر الهوية العربية، وتكشف مدى استعداد بعض الأنظمة للتضحية بالمبادئ مقابل إرضاء واشنطن وتل أبيب.
غياب الرفض العلني... قبول مستتر؟
حتى اللحظة، لم تُسجَّل مواقف عربية رسمية قوية وواضحة تعلن رفضًا قاطعًا لنشر قوات عربية في غزة، هذا الغياب يفتح الباب للتأويلات، ويطرح علامات استفهام حول ما إذا كان هناك قبول ضمني، أو ربما مفاوضات خلف الكواليس حول شروط المشاركة، في العلاقات الدولية، الصمت أحيانًا أخطر من الكلام، لأنه قد يُستخدم لتبرير قرارات خطيرة لاحقًا، الولايات المتحدة ووحكومة الكيان الصهيوني تراهنان على هذا الصمت، لتسويق الفكرة باعتبارها "مشروعًا توافقيًا عربيًا"، حتى وإن لم يُعلن رسميًا، المشكلة هنا أنّ الشعوب العربية تدرك تمامًا خطورة هذه الخطوة، وترى فيها خيانة واضحة للقضية المركزية، فإذا ما تم تمرير هذا المشروع، فإنّ الاحتلال سيحصل على غطاء عربي، يبرر للعالم أنّ الفلسطينيين أنفسهم باتوا تحت "حماية أشقائهم"، بذلك يتحقق أخطر ما يمكن: تطبيع الوجود الصهيوني عبر مشاركة عربية مباشرة، ما يحول الاحتلال من عدو إلى "شريك" بحكم الأمر الواقع.
بين الجندي الوطني والجندي المرتزق
إنّ جوهر الخطر في نشر قوات عربية بغزة هو تحويل الجندي العربي من مدافع عن حدود وطنه إلى حارس لأمن الكيان الصهيوني. هذه النقلة ليست مجرد قرار عسكري، بل انزلاق أخلاقي يُحوِّل بعض الجيوش إلى جيوش "مرتزقة" تعمل لمصلحة مشروع استعماري، إنّ قبول هذا الدور يعني أن بعض الأنظمة مستعدة إلى تفريغ غزة من مقاومتها، الخطير أنّ الاحتلال يريد استخدام الدم العربي ليغطي فشله العسكري بعد 466 يومًا من الحرب، فالذي لم تستطع حكومة الاحتلال تحقيقه عبر الدبابات والطائرات، تريد تحقيقه عبر الأنظمة العربية، هذه معادلة مهينة، تجرّد الجيوش من رمزيتها الوطنية، وتحوّلها إلى أدوات سياسية في يد واشنطن وتل أبيب، الشعوب العربية لن تقبل أبدًا أن ترى أبناءها يُقتلون في شوارع غزة وهم يؤدّون دور "الحارس الأجير"، فيما العدو الحقيقي يستمتع بحماية مجانية على أكتاف من كان يفترض بهم أن يكونوا سندًا لفلسطين.
تفريغ غزة من مقاومتها... الهدف الخفي
من الواضح أنّ الهدف الأعمق من هذا المشروع ليس "الأمن" ولا "المساعدات"، بل تفريغ غزة من مقاومتها وتجريدها من عمودها الفقري، فبعد أكثر من عامين من المجازر، لم تتمكن حكومة الاحتلال من القضاء على حماس أو كسر إرادة الشعب الفلسطيني، لذلك، جاء الحل الأمريكي: إدخال قوات عربية بغطاء "إنساني"، لتكون البديل عن الاحتلال المباشر، وتضمن أن المقاومة لن تنهض مجددًا، هذا السيناريو لا يخدم سوى الكيان الصهيوني، إذ يحقق لها راحة استراتيجية من دون أن تتحمل تكاليف سياسية أو عسكرية، الأخطر أنّه سيحوّل الصراع من مواجهة مع الاحتلال إلى مواجهة داخلية بين الشعب الفلسطيني وهذه القوات العربية، بما يضعف الموقف الفلسطيني ويعطي حكومة الاحتلال استراحة طويلة لإعادة ترتيب أوراقها، بكلمة أخرى، المشروع ليس لإعمار غزة، بل لطمس روحها المقاومة وتحويلها إلى منطقة تحت وصاية عربية – إسرائيلية – أمريكية مشتركة.
البدائل الممكنة... هل من خيار آخر؟
إذا كانت الأنظمة العربية جادّة فعلًا في دعم غزة، فهناك بدائل كثيرة تغنيها عن لعب دور الأداة في المشروع الصهيوني، أول هذه البدائل هو الضغط السياسي والدبلوماسي لفرض وقف إطلاق النار الدائم، مع ربط أي علاقة مع واشنطن أو تل أبيب بموقف واضح من إنهاء الاحتلال، ثانيًا، تكثيف الدعم الإنساني عبر قنوات أممية أو مؤسسات فلسطينية محلية بعيدًا عن أي حضور عسكري مشبوه، ثالثًا، مواجهة الضغوط الغربية، وعدم قبول المشروع الأمريكي – الصهيوني
إنّ صمت الأنظمة العربية تجاه مشروع نشر قواتها في غزة يثير الريبة أكثر مما يثير الطمأنينة، فالخطة الأمريكية – الإسرائيلية ليست سوى محاولة لتجميل الاحتلال وإلباسه عباءة عربية، القبول بهذا الدور يعني خيانة تاريخية وتحوّل الجيوش من دروع للأوطان إلى أدوات مرتزقة تحمي العدو، المستقبل سيحكم على هذه اللحظة: هل ستبقى بعض الأنظمة في دائرة الخضوع، أم ستدرك أنّ التاريخ لا يرحم من يبيعون قضاياهم؟ المؤكد أنّ الشعوب لن تسامح من يتخلّى عن غزة، لأنّ من يفرّط في فلسطين يفرّط في شرف الأمة كلها.