الوقت- مع تولي أبو محمد الجولاني منصب الحكم المؤقت في سوريا، لم تتجه الأنظار فقط إلى الداخل السوري وما يحمله هذا التحول من جدل، بل أيضاً إلى الدور الإسرائيلي المتسارع في استغلال الوضع الجديد، فالتقارير حول تفاهمات أمنية محتملة بين الجولاني و"إسرائيل" جعلت المشهد أكثر تعقيداً، وأثارت غضباً واسعاً في الشارع السوري الذي يرى في ذلك خيانة لتضحياته.
هذا التطور لم يأت ثمرة عملية سياسية وطنية أو توافق شعبي، بل جاء في سياق فراغ سياسي وصراعات إقليمية ودولية، الأمر الذي منح "إسرائيل" فرصة غير مسبوقة لاختراق العمق السوري عبر البوابة السياسية بعد سنوات من الضربات العسكرية.
غضب شعبي من الاستسلام أمام "إسرائيل"
لم يمض وقت طويل على استلام الجولاني للحكم المؤقت حتى ظهرت أولى الأزمات السياسية، بعد تسريب أنباء عن تفاهمات مباشرة بينه وبين "إسرائيل"، هذا الأمر أشعل موجة من الغضب الشعبي في مختلف المناطق السورية، حيث اعتبر الكثيرون أن الجولاني لم يأت ليحمي البلاد بل ليفتح الباب أمام اختراقات جديدة للعدو الصهيوني.
فالمزاج العام يرى أن أي شكل من أشكال التعاون مع "إسرائيل" يعد خيانة وطنية صريحة، وخاصة أن هذه الدولة المحتلة لم تتوقف يوماً عن ضرب البنية التحتية السورية واستهداف المواقع الدفاعية وإضعاف قدرات الجيش.
"إسرائيل" وسياسة فرض الواقع الجديد
بالنسبة لـ"إسرائيل"، يشكل وصول الجولاني إلى الحكم المؤقت فرصة ثمينة لإعادة رسم الخريطة السورية وفق مصالحها، فمنذ عقود، اعتمدت تل أبيب استراتيجية تقوم على إضعاف سوريا ومنعها من استعادة قوتها العسكرية، ومع صعود الجولاني، الذي أبدى مرونة تجاه التعاون الأمني، تجد "إسرائيل" نفسها أمام شريك يمكن أن يساعدها في تثبيت واقع جديد.
إن اتفاقاً أمنياً مع السلطة المؤقتة التي يمثلها الجولاني يعني عملياً انتقال العلاقات من مستوى التفاهمات الميدانية السرية إلى مستوى شبه رسمي، وهو ما يحقق لـ"إسرائيل" مكاسب استراتيجية على المدى الطويل.
تحديات الحكم المؤقت
الجولاني يواجه اليوم معضلة حقيقية: كيف يقنع الشعب السوري بشرعيته المؤقتة بينما أول اختبار سياسي له كان الانفتاح على "إسرائيل"؟ هذه الخطوة أفقدته الكثير من المصداقية وجعلت صورته أقرب إلى وكيل محلي يخدم مشاريع خارجية.
كما أن الحكم المؤقت بطبيعته هشّ، ويحتاج إلى غطاء شعبي ووطني واسع حتى ينجح، لكن الجولاني يفتقر إلى هذا الغطاء، لأن تاريخه العسكري وعلاقاته الإقليمية المثيرة للجدل تجعل منه شخصية مثيرة للانقسام أكثر من كونه رجل دولة جامعاً.
تداعيات على وحدة البلاد
واحدة من أخطر نتائج هذا التطور تتمثل في تهديد وحدة سوريا، فحين يصبح رأس السلطة المؤقتة مستعداً لعقد تفاهمات مع الاحتلال، فإن ذلك يفتح الباب أمام تقسيم فعلي للبلاد.
المناطق الخاضعة لإدارة الجولاني قد تتحول إلى كيان منفصل يرتبط مباشرة بـ"إسرائيل" أو يخضع لتأثيرها، في حين تبقى بقية المناطق تحت سلطة الدولة المركزية أو نفوذ أطراف أخرى، وهنا يظهر خطر تقسيم سوريا بين سلطات وكيانات مسلحة.
موقف الشعب السوري
رغم كل الظروف الصعبة التي عاشها السوريون خلال السنوات الماضية، يبقى الوعي الشعبي صلباً في رفض أي مشروع يسعى إلى إدماج "إسرائيل" في المعادلة الداخلية، المظاهرات والبيانات الغاضبة التي خرجت بعد الكشف عن التفاهمات مع تل أبيب تؤكد أن الشعب لا يزال متمسكاً بالثوابت الوطنية، وعلى رأسها رفض التطبيع مع العدو.
هذا الرفض الشعبي يمثل حجر عثرة أمام أي محاولة لإضفاء شرعية على الاتفاقات الأمنية، لأنه يكشف عن فجوة كبيرة بين السلطة المؤقتة الجديدة وبين المجتمع الذي يفترض أن تمثله.
قراءة في المواقف الإقليمية
الإقليم بدوره يتابع عن كثب هذا التحول، بعض القوى قد ترى في صعود الجولاني فرصة لإعادة ترتيب الملفات السورية بما يخدم مصالحها، بينما قوى أخرى تنظر إليه كتهديد مباشر لمشروعها في المنطقة، لكن المؤكد أن الجميع يدرك أن دخول "إسرائيل" عبر بوابة الحكم المؤقت سيزيد من تعقيد المشهد، وسيفتح فصلاً جديداً من الصراع على النفوذ داخل سوريا.
بين الشرعية والمشروعية
يبقى السؤال الأساسي: هل يملك الجولاني شرعية حقيقية لإدارة سوريا ولو بشكل مؤقت؟ الشرعية القانونية غائبة تماماً، إذ لم يستند صعوده إلى عملية انتخابية أو توافق وطني شامل، أما المشروعية السياسية فهي مشكوك فيها، لأن خطوته الأولى في الحكم كانت أقرب إلى الاستسلام أمام "إسرائيل".
هذا التناقض بين المنصب والشرعية سيظل نقطة ضعف أساسية تلاحق الجولاني وتعيق أي محاولة له لتثبيت سلطته.
في الختام، إن استلام الجولاني الحكم المؤقت لم يكن نتيجة منطقية لمسار سياسي وطني، بل جاء كجزء من لعبة إقليمية ودولية معقدة، أولى خطواته في السلطة، المتمثلة بالتفاهم مع "إسرائيل"، كشفت عن جوهر مشروعه وأكدت مخاوف السوريين من أن يكون مجرد واجهة لمخططات تهدف إلى إضعاف البلاد وتفتيتها.
يمكن القول إن الغضب الشعبي الذي رافق هذه التطورات هو الدليل الأبرز على أن السوريين لم يفقدوا بوصلتهم الوطنية، وأن أي مشروع يستند إلى استسلام أو تطبيع مع الاحتلال سيظل غريباً ومرفوضاً، حتى لو جاء تحت غطاء "الحكم المؤقت".