الوقت- لم يعد مصطلح "العزلة الدولية" مجرد شعار يرفعه خصوم "إسرائيل"، بل بات واقعًا يعترف به كبار قادتها وصحافييها، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه أقرّ ، بأن "موجة تسونامي دبلوماسية قادمة"، وأن "إسرائيل" ستُجبر على التكيّف مع اقتصاد "أقرب إلى الاكتفاء الذاتي"، هذا الاعتراف الصريح يلخص المشهد: "إسرائيل" اليوم في قلب عزلة سياسية واقتصادية خانقة، سببها سياساتها الرعناء التي بدأت بحرب الإبادة في غزة، وتوسعت عبر مهاجمة دول الإقليم، وصولًا إلى خسائر فادحة في قطاعي السلاح والتجارة.
غزة: الجريمة التي فجّرت الغضب العالمي
الحرب على غزة لم تكن حربًا تقليدية، بل حملة إبادة موثقة بالصوت والصورة، أكثر من عام من القصف المتواصل، آلاف الأطفال الذين ماتوا جوعًا ومرضًا، تدمير المستشفيات والمدارس، واستهداف فرق الإغاثة والكوادر الطبية، هذه الجرائم غيّرت وجه "إسرائيل" في العالم، وحوّلتها من "دولة صغيرة محاصرة" إلى رمز للقمع والإبادة.
تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وصور الإعلام الغربي رسمت صورة مرعبة عن "إسرائيل"، وهو ما أدى إلى انتقال الغضب من الشارع إلى الحكومات، ومن البيانات الدبلوماسية إلى قرارات اقتصادية وسياسية عقابية.
الاعتداءات الإقليمية: توسيع دائرة العداء
لم تكتفِ "إسرائيل" بغزة، بل وسّعت جبهات الصراع:
في لبنان، واصلت القصف الجوي والاغتيالات، ما أثار مخاوف من حرب إقليمية شاملة.
في سوريا، حيث يستهدف الاحتلال مطارات مدنية ومواقع عسكرية بشكل متكرر.
في اليمن، في محاولات فاشلة لكسر الحصار البحري تقوم القوات الاسرائيلية بتنفيذ، ضربات عسكرية على اليمن والبني التحتية في البلاد أدت إلى إدخال البحر الأحمر في دائرة النار.
حتى قطر، الدولة التي لعبت دور الوسيط الإنساني، لم تسلم من الهجوم العسكري والتمرد السياسي والإعلامي الإسرائيلي.
بهذا السلوك، صنعت "إسرائيل" لنفسها صورة العدو الإقليمي الأكبر، ما سرّع من سقوطها في عزلة محكمة، ليس فقط من دول العالم البعيد، بل من جوارها المباشر أيضًا.
عزلة سياسية تتفاقم
تداعيات الحرب والاعتداءات جعلت "إسرائيل" أكثر عزلة على الساحة السياسية:
أمريكا اللاتينية: بوليفيا قطعت العلاقات، تشيلي وكولومبيا استدعتا سفراءهما.
إفريقيا: جنوب إفريقيا تقود معركة قانونية في لاهاي ضد "إسرائيل" بتهمة الإبادة.
أوروبا: برلمانات عدة صوّتت للاعتراف بدولة فلسطين، ودول مثل إسبانيا ألغت عقود تسليح.
الأمم المتحدة: الجمعية العامة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان صارتا منصتين متكررتين لإدانة تل أبيب.
حتى الإعلام الإسرائيلي يعترف، محلل القناة 12، يوآف ليمور، قال إن نتنياهو اختار "إسبارطة" رمزًا، لكن إسبارطة عاشت على الخراب وسقطت بيد جيرانها، وهو تشبيه يعكس أن سياسات الاحتلال تسير به نحو مصير انعزالي قاتم.
الضربات الاقتصادية: بداية الانهيار
الاقتصاد الإسرائيلي، الذي طالما كان ورقة قوة، بدأ يشعر بثقل العزلة:
المقاطعة التركية للمواد الخام أربكت سلاسل التوريد، ألون بن دافيد (القناة 13) قال بوضوح: "إسرائيل تئن تحت وطأة المقاطعة التركية".
أوروبا ألغت صفقات ضخمة: إسبانيا وحدها ألغت عقودًا عسكرية قيمتها مليار يورو تقريبًا، شملت صواريخ "سبايك" وأنظمة مدفعية.
المعارض الدولية أغلقت أبوابها أمام الشركات الإسرائيلية: من دبي للطيران إلى باريس الجوي، حيث أقيمت حواجز لعزل الأجنحة الإسرائيلية عن الزوار.
الاستثمارات الأجنبية بدأت تتراجع، مع تحذيرات صناديق كبرى من ضخ أموال في بيئة غير مستقرة.
رئيس اتحاد الصناعيين الإسرائيليين، رون تومر، اعترف بأن "العزلة تعني الانهيار الاقتصادي"، وهو تصريح يلخص حجم الخوف من القادم.
الصناعات العسكرية في عين العاصفة
الصناعات الدفاعية، التي كانت رافعة الاقتصاد والدبلوماسية، تواجه أزمة غير مسبوقة:
خسارة مليارات الدولارات من العقود الملغاة.
تراجع صورة "السلاح الإسرائيلي المجرب ميدانيًا"، بعد أن صار مرتبطًا بقتل الأطفال وتدمير المستشفيات.
منافسة أوروبية شرسة، وخصوصًا من فرنسا وألمانيا، التي تستغل العزلة الإسرائيلية لزيادة حصتها في سوق السلاح.
خطر تآكل النفوذ: إذ لم تعد "إسرائيل" قادرة على استخدام صادرات السلاح كأداة لشراء النفوذ السياسي.
عوديد يارون (هآرتس) لخص الأمر بقوله: "العزلة الاقتصادية نتاج مباشر للعزلة السياسية، وكلما طال أمد الحرب، تعمقت المقاطعة وخسرت إسرائيل المزيد".
الداخل الإسرائيلي: أزمة مركبة
الانعكاسات لا تتوقف عند الخارج، بل تضرب الداخل مباشرة:
معيشة صعبة: ارتفاع الأسعار، نقص بعض المواد الخام، تراجع قيمة الشيكل.
سخط شعبي: قادة اقتصاديون يتهمون نتنياهو بإلحاق ضرر جسيم بالاقتصاد وصورة "إسرائيل".
انقسام اجتماعي: اليمين المتطرف يمزق المجتمع، بينما المعارضة تتهم الحكومة بقيادة البلاد إلى الهاوية.
هجرة العقول: آلاف المهندسين والأطباء يفكرون بالهجرة، ما يهدد قطاعات التكنولوجيا والطب.
أزمة ثقة: المواطن العادي لم يعد يثق بأن الجيش أو الحكومة قادران على تأمين مستقبل آمن.
صحفيون إسرائيليون كآري شبيط أكدوا أن إسرائيل "تفتقد الشرعية الداخلية والدولية"، وأن استمرار الحرب "كارثة" بكل المقاييس.
الكراهية العالمية: من الشارع إلى المؤسسات
صور غزة غيّرت المزاج العالمي حيث بات العالم يشهد باستمرار:
مظاهرات مليونية في لندن وباريس وبرلين وواشنطن.
جامعات أمريكية وأوروبية تفرض ضغوطًا لقطع العلاقات الأكاديمية مع "إسرائيل".
مقاطعة ثقافية ورياضية متنامية، مع رفض فنانين ورياضيين المشاركة في فعاليات مشتركة.
انقسام حتى داخل الأوساط اليهودية، حيث تعالت أصوات ضد سياسات نتنياهو وحكومته.
هذا الرفض العالمي لم يعد مؤقتًا، بل يتجذر ليصنع صورة "إسرائيل" كدولة منبوذة، على غرار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا سابقًا.
دور المقاطعة الاقتصادية في ترسيخ العزلة
حركة المقاطعة العالمية (BDS) تلعب دورًا محوريًا في تعزيز العزلة وقد تجلى ذلك من خلال مجموعة من الاجراءات التي تم اتخاذها:
شركات كبرى بدأت تتجنب التعامل مع السوق الإسرائيلي خوفًا من الضغوط الشعبية.
جامعات ومؤسسات بحثية في أوروبا وأمريكا أعلنت مقاطعة أكاديمية للشركات الإسرائيلية.
المقاطعة الشعبية للمنتجات الزراعية والتجارية الإسرائيلية تتوسع، وخصوصًا في الأسواق الأوروبية.
استبعاد "إسرائيل" من معارض كبرى يُعتبر تطبيقًا عمليًا لمطالب المقاطعة.
بهذا، تتحول المقاطعة من مجرد حركة مدنية إلى أداة اقتصادية مؤثرة، تضعف قدرة "إسرائيل" على مواجهة أزمتها المتفاقمة.
المستقبل: سنوات صعبة قادمة
المشهد العام يشي بأن "إسرائيل" مقبلة على مرحلة هي الأصعب في تاريخها:
اقتصاديًا: ركود، خسائر بمليارات الدولارات، نزيف في قطاع التكنولوجيا والدفاع.
سياسيًا: عزلة دولية تتوسع، تراجع الاعتراف الدولي، ضغوط متزايدة من الأمم المتحدة والمحاكم الدولية.
اجتماعيًا: تفكك داخلي، صعود التطرف، احتمالات انفجار احتجاجات شعبية واسعة.
دوليًا: كراهية متنامية تجعل الإسرائيليين هدفًا للرفض الشعبي أينما ذهبوا.
إسرائيل نفسها تعترف: "العزلة تعني الانهيار الاقتصادي"، لكن الحقيقة أعمق: العزلة اليوم تعني بداية تفكك المشروع الصهيوني الذي قام على القوة والعلاقات الدولية، فإذا فقد كليهما، فإن مستقبله يصبح على المحك.
ختام القول
العزلة التي تحاصر كيان الاحتلال الاسرائيلي ليست صدفة ولا مؤامرة، بل نتيجة طبيعية لسياسات دموية رعناء: إبادة في غزة، اعتداءات إقليمية، تحدٍ للقانون الدولي، وممارسات عنصرية متطرفة، هذه السياسات أنتجت عالماً يرى إسرائيل كيانًا مارقًا يجب محاصرته سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.
الفترة المقبلة لن تكون مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية قد تحدد ما إذا كانت "إسرائيل" قادرة على الاستمرار في مواجهة عزلة تتعمق كل يوم، أم إن مشروعها الاستعماري يقترب من نهايته الطبيعية.