الوقت- يشهد قطاع غزّة منذ أيام تصعيدًا غير مسبوق مع إعلان الكيان الصهيوني بدء عدوان بري واسع النطاق يهدف إلى السيطرة على المدينة وإخضاع المقاومة الفلسطينية، إلا أنّ المعطيات الميدانية والسياسية تكشف عن صورة مغايرة لما تسعى آلة الدعاية الصهيونية لتسويقه، فبينما يقدّم الاحتلال عمليته باعتبارها ضرورة أمنية لحماية مستوطنيه حسب مزاعمه، تظهر الوقائع أنّ هذه الحرب تعكس أزمة داخلية عميقة يعانيها الكيان على المستويين العسكري والسياسي.
في المقابل، تبرز المقاومة الفلسطينية كلاعب رئيسي يمتلك أدوات المواجهة، حيث استطاعت عبر خبرتها الطويلة أن تطوّر تكتيكات مرنة تمكّنها من مجابهة أعتى الجيوش، إنّ قراءة هذه التطورات تكشف أنّ الصراع لم يعد مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل هو معركة إرادات بين مشروع استيطاني استعماري يسعى إلى فرض الهيمنة، وشعب يصرّ على حقه في الحرية.
العدوان البري وأهداف الكيان الصهيوني
منذ إعلان جيش الاحتلال عن بدء عملياته البرية في غزّة، كثّفت القيادة الصهيونية خطابها حول "الحاجة الملحّة" لاجتثاث المقاومة وفرض الأمن داخل حدود الكيان الهش، غير أنّ تحليل السياق الاستراتيجي يبيّن أنّ الأهداف الحقيقية أعمق من مجرد اعتبارات أمنية، فالكيان يسعى من خلال هذه المغامرة العسكرية إلى استعادة صورة الردع التي تآكلت بفعل العمليات النوعية للمقاومة، وإلى تصدير أزماته الداخلية العاصفة إلى الخارج، إذ تعاني الحكومة الصهيونية من انقسامات سياسية حادّة، ومن تراجع ثقة الجمهور في مؤسساته الأمنية بعد سلسلة من الإخفاقات.
العدوان البري على غزّة يُراد له أن يكون بوابة لإعادة الاعتبار لقوة الجيش وترميم صورة الاحتلال أمام الرأي العام الداخلي، لكن الوقائع على الأرض تكشف هشاشة هذه الأهداف، فكلّما ازداد التوغّل البري واجه الجيش مقاومة شرسة، ما يحوّل العملية من "استعراض قوة" إلى ورطة استراتيجية قد تكلف الكيان خسائر فادحة على المستويين العسكري والمعنوي.
المقاومة واستراتيجيات المواجهة
في مواجهة هذا العدوان، أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على ابتكار أساليب تكتيكية أربكت حسابات الاحتلال، فبدلاً من المواجهة المباشرة مع الجيش الذي يمتلك تفوقًا عسكريًا تقليديًا، اعتمدت المقاومة على استراتيجية حرب العصابات والكمائن داخل المناطق السكنية والشبكات الأنفاقية، هذا النمط من القتال حوّل مسرح العمليات إلى بيئة معقدة يصعب على القوات الصهيونية السيطرة عليها، إذ يتحول كل شارع وكل بيت إلى ساحة مواجهة محتملة، إضافة إلى ذلك، أظهرت المقاومة انضباطًا عاليًا في إدارة المعركة، من خلال توزيع الأدوار وتوظيف عناصرها وفق خطط دقيقة، الأمر الذي يعكس خبرة تراكمت عبر سنوات من المواجهة، كما نجحت المقاومة في الحفاظ على معنويات مرتفعة، مستندة إلى خطاب تعبوي يعزز ثقة الجماهير بصمودها، هذه المعادلة تجعل الاحتلال أمام تحدٍّ مزدوج: مواجهة عسكرية شاقة من جهة، وصراع نفسي ومعنوي من جهة أخرى، حيث تبدو المقاومة أكثر استعدادًا لتحمل التكلفة الباهظة على المدى الطويل.
المخاوف الصهيونية والارتباك الداخلي
تزامن العدوان البري مع تصاعد المخاوف داخل الكيان الصهيوني من فشل العملية، وهو ما عبّرت عنه تقارير صحفية غربية وإسرائيلية على السواء، فقد أقرّت دوائر عسكرية بأن الجيش يعاني نقصًا في القوى البشرية وضعفًا في الروح القتالية لدى الجنود، وخاصة بعد طول فترة الاستنزاف التي فرضتها صواريخ المقاومة وعملياتها النوعية، كذلك تتعمق حالة الارتباك السياسي في تل أبيب، حيث تواجه الحكومة انتقادات حادة من المعارضة والرأي العام حول جدوى الحرب وتكلفتها الاقتصادية والإنسانية، هذه الانقسامات تجعل قدرة القيادة على إدارة المعركة موضع شك كبير، كما أنّ الخوف من ارتفاع الخسائر البشرية في صفوف الجيش يضغط على صناع القرار ويحدّ من هامش مناورتهم، وبدلاً من أن تُظهر العملية العسكرية "قوة الردع" كما كان مأمولًا، أصبحت تكشف هشاشة البنية الداخلية للكيان، ما يفتح الباب أمام تساؤلات جديّة حول مستقبل استقراره في ظلّ استمرار المقاومة وتوسعها.
التخاذل العربي وازدواجية المعايير الدولية
في الوقت الذي تصمد فيه غزّة بوجه أعتى آلة عسكرية مدججة بكل أنواع السلاح، تقف بعض الأنظمة العربية موقف المتفرّج، بل إنّ بعضها لا يتورع عن توفير غطاء سياسي ضمني للعدوان الصهيوني عبر بيانات باهتة وخطابات جوفاء لا ترقى إلى مستوى الدماء المسفوكة، إنّ هذا التخاذل ليس جديدًا، بل هو امتداد لمسار طويل من التطبيع العلني والمستتر مع الكيان، حيث تحوّل بعض الحكام إلى أبواق تردّد روايات الاحتلال وتساوي بين الجلاد والضحية.
إنّ صمت هذه الأنظمة لا يعكس عجزًا بقدر ما يكشف ارتهانها الكامل للمصالح الغربية، وتفضيلها رضا العواصم الكبرى على نصرة قضايا الأمة، وعلى الصعيد الدولي، يتجلّى النفاق بأبشع صوره: عواصم الغرب التي لا تتوقف عن التشدّق بحقوق الإنسان والديمقراطية تلوذ بالصمت أو تمنح غطاءً سياسيًا للكيان المجرم، يُدينون أي مقاومة مشروعة باعتبارها "إرهابًا"، بينما يغضّون الطرف عن جرائم حرب موثّقة يرتكبها الاحتلال ليل نهار، هذه الازدواجية الفاضحة فضحت زيف الخطاب الغربي وكشفت أن القانون الدولي ليس سوى أداة بيد الأقوياء، يُفعّل حيثما شاؤوا ويُعطّل حين يتعلق الأمر بدماء الفلسطينيين، وفي مقابل هذا العار العربي والصمت الدولي، يظلّ صوت المقاومة هو التعبير الأصدق عن كرامة الأمة وحقها في الحرية.
في النهاية، تؤكد معطيات الميدان والتحليلات السياسية أنّ العدوان الصهيوني على غزّة لا يعبّر عن قوة بقدر ما يكشف عن مأزق وجودي يعيشه الكيان، في المقابل، استطاعت المقاومة أن تفرض معادلة جديدة تقوم على الصمود والإبداع التكتيكي، لتؤكد أنّ إرادة الشعوب لا يمكن أن تُقهر مهما بلغت آلة القمع، ومع كلّ يوم يمرّ، يتضح أنّ خيار المقاومة ليس مجرد ردّ فعل آنٍ، بل هو مشروع تحرر شامل يحظى بعمق شعبي وشرعية تاريخية، إنّ هذه المواجهة ليست نهاية المطاف، بل حلقة جديدة في مسار طويل يرسخ حقيقة أنّ مستقبل المنطقة يُرسم بدماء المقاومين وصمود الشعوب، لا بمخططات الاحتلال وجبروته.