الوقت – أثار العدوان الجوي الذي شنه الكيان الصهيوني على اجتماع قادة حماس في الدوحة قلقاً متصاعداً في تركيا، إذ تتعاظم المخاوف من أن تكون أنقرة الهدف التالي في مرمى نيران تل أبيب.
وفي هذا المضمار، أطلق المتحدث باسم وزارة الدفاع التركية، الأميرال زكي أكتورك، يوم الخميس في العاصمة التركية، صيحة تحذير مفادها بأن "إسرائيل" “ستوسع غاراتها المتهورة، على شاكلة ما اقترفته في قطر، وستجر المنطقة بأسرها، بما فيها نفسها، إلى هاوية الدمار".
تنظر أنقرة إلى هذه الخطوة ليس باعتبارها حدثاً منعزلاً، بل حلقة في سلسلة متصلة من النهج الإسرائيلي الذي يشكّل خطراً داهماً على الأمن القومي والمصالح الإقليمية التركية.
1. جذور المخاوف التركية: من انتهاك السيادة إلى قلب موازين القوى
ترتكز هواجس تركيا على دعائم جوهرية متعددة:
• الانتهاك المنهجي لسيادة الدول: ترقب أنقرة بعين القلق كيف يخترق الكيان الصهيوني بجرأة فائقة الأجواء والأراضي السيادية لدول شتى تشمل إيران وسوريا ولبنان واليمن ومؤخراً قطر، ووفقاً لـ"سرهات سوها تشوبوكتشوغلو" مدير برنامج تركيا في معهد “تريندز” للأبحاث( Trends Research and Advisory)، فإن هذه الأعمال العدوانية ترسي سابقةً خطيرةً تتجاوز الأعراف الدولية وتستخف بمنظومات الدفاع الجوي في المنطقة.
• مخطط "إسرائيل الكبرى" ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي: يتبنى المحللون الأتراك رؤيةً مفادها بأن الكيان الصهيوني يسعى لتنفيذ استراتيجية شاملة لإضعاف الدول المجاورة، ونسج حزام أمني من الكيانات الهشة أو المنقادة حوله.
وفق هذه الاستراتيجية، لا ينبغي أن تنهض دول قوية ذات رقعة جغرافية واسعة في محيط الأراضي المحتلة، بل يتحتم تفتيت الدول الكبرى في المنطقة إلى كيانات أصغر حجماً وأوهن قوةً من "إسرائيل" - مخطط نُسج على منوال المشروع الأمريكي الكبير للمنطقة إبان عهد جورج بوش الابن تحت مسمى الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وتتعزز هذه الرؤية بتصريحات مسؤولين بارزين مثل الأميرال زكي أكتورك، الذي نبّه إلى أن "إسرائيل" ستمضي قدماً في توسيع نطاق غاراتها المتهورة.
• احتمالية استهداف تركيا: أثار وجود قيادات وكوادر من حركة حماس على الأراضي التركية - التي سبق وأن وجّهت إليها "إسرائيل" اتهامات بالتخطيط لعمليات انطلاقاً من أراضيها - مخاوف حقيقية من أن تكون أنقرة الهدف التالي للعدوان الإسرائيلي، فقد أطلق المسؤولون الصهاينة، وعلى رأسهم نتنياهو، تهديدات متكررة بملاحقة عناصر حماس “أينما وُجدوا”، وتكتسي هذه التصريحات أهميةً رمزيةً بالغةً إذ انتقل نحو أربعين منهم إلى تركيا كجزء من صفقة جلعاد شاليط الشهيرة.
هل يمتلك الكيان الصهيوني مقومات مهاجمة تركيا؟
تتباين الرؤى في هذا المضمار بين اتجاهين متمايزين:
الأول يتبناه خبراء من أمثال “أوزغور أونلوهيسارتشيكلي”، مدير صندوق مارشال الألماني في أنقرة، الذين يرون أن احتمال شنّ هجوم مباشر من الكيان الصهيوني على أراضي عضو في حلف الناتو “ضرب من المحال”، نظراً لعضوية تركيا في الحلف وقدراتها العسكرية الهائلة، بيد أنهم يعتبرون العمليات السرية (كالاغتيالات أو التفجيرات) ضد أهداف مرتبطة بحماس على الأراضي التركية بواسطة الموساد، احتمالاً وارداً وسيناريو قابلاً للتحقق.
أما الاتجاه الثاني فيشدد على النمط السلوكي للكيان وازدرائه بكل القوانين والأعراف الدولية في ظل المظلة الأمريكية الواقية، إضافةً إلى برودة العلاقات بين الناتو وتركيا في عهد أردوغان، وخاصةً في أعقاب الحرب الأوكرانية وعدم انصياع أنقرة للسياسات الغربية العقابية ضد موسكو، ما يجعل احتمال الهجوم المباشر غير مستبعد من دائرة الاحتمالات، فكما كشفت واقعة الاعتداء على قطر، فإن التحالف الوثيق مع واشنطن لا يشكّل بالضرورة درعاً واقياً من الغطرسة الإسرائيلية.
2. ميادين المجابهة والتنافس الاستراتيجي
امتدت شرارات التوتر بين الطرفين لتشعل جبهات متعددة:
• سوريا: تحولت الأراضي السورية إلى ساحة المنافسة الرئيسية للمنافسة الاستراتيجية بين الكيان الصهيوني وتركيا، فمنذ أن أطاح المتمردون السوريون بنظام الأسد في ديسمبر، اشتعلت نيران التوتر بين أنقرة وتل أبيب هناك.
آزرت أنقرة الحكومة المؤقتة الجديدة وسعت لبسط نفوذها، بما في ذلك في المجال العسكري، مشددةً على صون وحدة الأراضي السورية وتأمين حدودها في مواجهة الجماعات الكردية، وفي المقابل، تعمل "إسرائيل" على تقويض أركان الحكومة المركزية وتمزيق النسيج السوري من خلال شنّ غارات متوالية على أهداف تابعة لحكومة الجولاني والمنشآت التركية، وإقامة منطقة عازلة في الجنوب، ومدّ يد العون للجماعات الأقلية (كالدروز) والتقرب من الأكراد، لذا، فإن استهداف القوات التركية أو حلفائها في سوريا من قبل "إسرائيل"، يمثّل فتيل اشتعال محتمل للغاية، وخاصةً أن الكيان نفّذ عمليةً هجوميةً في سوريا بالتزامن مع اعتدائه على الدوحة، ما عدّه البعض رسالةً صريحةً موجهةً للجانب التركي.
• شرق المتوسط: قد تمتد ألسنة اللهب لتشمل شرق المتوسط في ظل احتدام المنافسة على كنوز الغاز والنفوذ البحري، حيث وطّدت "إسرائيل" في السنوات الأخيرة علاقاتها مع اليونان وقبرص اليونانية لمجابهة الوجود العسكري التركي في شمال قبرص، توجّه أنقرة أصابع الاتهام إلى "إسرائيل" بالسعي لفرض طوق بحري عليها، وإقصائها من مشاريع الطاقة الإقليمية من خلال الانخراط في تحالف مناهض لمصالحها.
• المسألة الكردية: ترى تركيا في مساندة "إسرائيل" للحكم الذاتي الكردي في سوريا والعراق، مسعى لزرع بذور الفتنة والانفصال على حدودها الجنوبية، ما يشكّل تهديداً جسيماً لأمنها القومي وطموحاتها لتتبوأ مكانةً مرموقةً كمركز إقليمي للطاقة، فتركيا تسعى منذ أمد بعيد لتحويل نفسها إلى قطب إقليمي للطاقة، وتروّج لمشاريع خطوط أنابيب لنقل غاز الخليج الفارسي عبر أراضيها إلى أوروبا لتقليص الاعتماد على روسيا، غير أن "إسرائيل"، المدعومة غالباً من واشنطن، ناصبت هذه الطموحات العداء بدعمها الحكم الذاتي والفيدرالية الكردية في سوريا والعراق - وهي إجراءات تقوّض التواصل والانسجام الإقليمي الضروري لمدّ خطوط الأنابيب، وتؤجّج نار النزعة الانفصالية الكردية على حدود تركيا.
٣. ردود تركيا: من الدبلوماسية إلى التأهب العسكري
انتهجت تركيا استراتيجيةً متعددة الأوجه للتصدي لهذه المخاطر المحدقة:
الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية: تزعم أنقرة أنها قلصت علاقاتها التجارية مع "إسرائيل" بصورة جذرية، وأوقفت رسمياً جميع التبادلات التجارية احتجاجاً على “الإبادة الجماعية” في غزة، ووفقاً لبيانات وزارة التجارة التركية، تراجعت التجارة الثنائية مع "إسرائيل" في الفترة الممتدة بين السابع من أكتوبر 2023 والثاني من مايو 2024 بنسبة 32 بالمئة مقارنةً بالفترة ذاتها من العام السابق، مع انحسار الصادرات التركية بنسبة 30 بالمئة وهبوط الواردات من الأراضي المحتلة بنسبة ثلاثة وأربعين فاصل أربعة بالمئة.
امتدت رقعة التوترات لتشمل الأجواء التركية أيضاً، ففي نوفمبر 2024، حُرم رئيس الوزراء الإسرائيلي من امتياز التحليق فوق المجال الجوي التركي، ما اضطره إلى إلغاء حضوره لمؤتمر تغير المناخ (COP) في أذربيجان، وتكرر المشهد ذاته في مايو 2025 حينما حيل دون وصول رحلة أخرى لنتنياهو إلى باكو.
ردّت "إسرائيل" على هذه الخطوات بإعلان بنيامين نتنياهو الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، ما أجّج أوار التوتر بعد أشهر معدودة فقط من تطبيع العلاقات بين الطرفين.
ووفقاً للخبراء، فإن تصاعد حدة المواقف التركية "لم يعد ينبع فقط من دوافع إنسانية أو أخلاقية، بل من تحولات استراتيجية جذرية ترتبط بصميم الأمن القومي التركي وتفاقم المنافسة الإقليمية"، ولا سيما في سوريا وشرق المتوسط، وصرح كاهيت توز، المستشار السابق في مجلس الوزراء، لصحيفة “نيو عرب”: “توصلت تركيا إلى قناعة راسخة مفادها بأن إسرائيل لا تقوّض أركان استقرار المنطقة فحسب، بل تضع تركيا نفسها في دائرة الاستهداف، هذا ليس خطراً عابراً، بل تهديداً وجودياً".
تعزيز القدرة الردعية العسكرية: تعكف تركيا، مستندةً إلى ترسانتها الدفاعية المتطورة ومكانتها كثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو، على تدعيم قدراتها الدفاعية بوتيرة محمومة، ويتجلى ذلك في الكشف عن منظومة الدفاع الجوي المتكاملة “القبة الفولاذية”، وتكثيف إنتاج الصواريخ الباليستية والكروز، وضخّ استثمارات هائلة في مشاريع وطنية طموحة مثل المقاتلة KAAN والطائرة المسيرة “كيزيلما”، ما يعكس إصرار أنقرة على رفع فاتورة أي عدوان محتمل، وقد أطلق المسؤولون الأتراك تحذيرات صريحة من أن أي انتهاك لسيادة الأجواء التركية، سيُقابل برد صاعق وحاسم.
الدبلوماسية الدفاعية في سوريا: يشير إبرام اتفاقية التعاون العسكري والتدريب مع الحكومة السورية، إلى مساعي تركيا لترسيخ موطئ قدمها وإقامة جبهة أكثر تماسكاً في مواجهة المناورات الإسرائيلية في هذا البلد. وقد وقعت أنقرة ودمشق الشهر المنصرم اتفاقيةً تتعهد بموجبها تركيا بتقديم التدريب والمشورة العسكرية للقوات المسلحة السورية.
4. آفاق التطورات: بين الردع والتصعيد
سيرتهن مستقبل العلاقات بعوامل متعددة:
• سيناريو التصعيد المحدود: السيناريو الأوفر حظاً هو استمرار التوتر في جبهات غير مباشرة مثل سوريا، حيث قد ترد تركيا على أي اعتداء إسرائيلي ضد حلفائها باستهداف مواقع إسرائيلية في الأراضي السورية، ما قد يفضي إلى دوامة من التصعيد التدريجي.
• سيناريو استهداف حماس في تركيا: إذا أقدم الكيان الصهيوني على استهداف قادة حماس على الأراضي التركية، فسيشكّل ذلك منعطفاً خطيراً للغاية قد يفجّر أزمةً شاملةً بين الطرفين، وقد سبق لتركيا أن أنذرت بأن "إسرائيل" ستتكبد ثمناً باهظاً لمثل هذه المغامرة.
وكشفت الأجهزة الأمنية التركية في السنوات الأخيرة عن تفكيك عدة شبكات للموساد على أراضيها كانت تتعقب حماس وشخصيات فلسطينية، ما دفع أردوغان إلى تحذير تل أبيب من أنها ستدفع “ثمناً فادحاً” لأي عمل سري في تركيا.
• دور اللاعبين الخارجيين: يمثّل موقف الولايات المتحدة وحلف الناتو في حال اندلاع مواجهة مباشرة بين حليفين لهما، عاملاً مجهولاً ذا أهمية قصوى، وتبرهن تجربة قطر أن امتلاك علاقات وطيدة مع واشنطن، لا يوفّر درعاً واقياً من الإجراءات الأحادية الإسرائيلية.
خاتمة القول
لم تعد هواجس تركيا إزاء التهديد الإسرائيلي مجرد خلاف سياسي حول فلسطين، بل استحالت إلى صراع استراتيجي جذري يستهدف مباشرةً أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية (الطاقة) وتطلعاتها الإقليمية، فمن منظور أنقرة، تحولت "إسرائيل"، بانتهاكاتها المتكررة لسيادة الدول ومساعيها الحثيثة لقلب موازين القوى على حساب تركيا، إلى “خطر محدق وتهديد وجودي”، فهل يعني هذا أن ساعة المواجهة المباشرة قد أزفت؟