الوقت - في أعقاب توقيع اتفاقية السلام بين أذربيجان وأرمينيا في البيت الأبيض الأمريكي بعشرة أيام، حطّ “مسعود بزشكيان”، رئيس الجمهورية الإيرانية، رحاله في يريفان عاصمة أرمينيا للقاء المسؤولين الأرمن والتباحث معهم. وقد أفصح الرئيس الإيراني عن غايات زيارته قائلاً: “سنتداول بشأن ممر الشمال-الجنوب، كما ستتاح لنا فرصة سانحة لتعزيز مسارات التجارة من الشرق إلى الغرب وتوسيع نطاقها”.
ويرى الخبراء أن هذه الزيارة تكتسي أهميةً بالغةً، لا سيما في ظل المخاوف التي أثارتها الاتفاقية حول ممر "زنجيزور" بين يريفان وباكو بوساطة أمريكية وبإشراف ترامب شخصياً، مما قد يمسّ حرمة الحدود الشمالية لإيران، وستكون لها انعكاسات جوهرية في ترسيخ مكانة إيران في القوقاز.
استجلاء غوامض الممر المحفوف بالمخاطر
يلوح في الأفق جلياً أن إحدى الغايات الجليلة لزيارة الرئيس الإيراني إلى أرض أرمينيا هي متابعة الاتفاقية الموسومة بـ"ميثاق السلام" بين أرمينيا وأذربيجان، وإنشاء معبر عبور أُطلق عليه “ممر ترامب” نسبةً إلى الوساطة الأمريكية في هذا الشأن الخطير.
وحيث تتعاظم الهواجس في صدور الإيرانيين من أن يضطلع هذا المسلك بوظيفة “ممر زنجيزور” الذي قد يفضي إلى تبدل في نسيج المنطقة الجيوسياسي، ويوهن شرايين العبور الإيرانية، ويقوّض مكانة إيران في القوقاز، ويفتح أبواب الشمال أمام تسلل القوى الأجنبية - وكلها تعدّ من الخطوط الحمراء التي لا تقبل المساومة - فإن استجلاء مكنونات هذه الاتفاقية والإفصاح الجلي عن موقف الجمهورية الإسلامية من لدن رئيس الجمهورية بوصفه أرفع شخصية سياسية في البلاد بعد المرشد الأعلى، سيكون له أثر بالغ في صون هذه المحاذير في أي اتفاقٍ يُبرم مستقبلاً.
وينبغي الإدراك أن ما يهمّ حقاً هو أن تغيير معالم الحدود وتبديل النسيج الجيوسياسي الإقليمي وتوغل القوى الأجنبية يمثّل خطاً أحمر لإيران، ولن تتسامح الجمهورية الإسلامية مع المساس بخطوطها الحمراء تحت أي مسمى أو ذريعة كانت.
أواصر التاريخ بين إيران وأرمينيا
تعد الروابط الإيرانية-الأرمنية من أعرق وأضرب الصلات بين الشعوب، إذ تضرب جذورها في أعماق التاريخ لنحو ثلاثة آلاف عام، ولا يمكن سبر أغوار تاريخ أرمينيا بدقة دون الإلمام بتاريخ إيران العريق.
وتشهد سجلات التاريخ أن أوثق عرى الارتباط للشعب الأرمني وتاريخ أراضيه كان مع الإيرانيين، حتى غدت هذه الأرض ملتقى للديانات والثقافات العظيمة في غابر الزمان وحاضره، أي ثقافات وحضارات المشرق والمغرب. ولا يمكن غضّ الطرف عن حضور الثقافة الإيرانية ونفوذ اللغة والأدب الفارسي ووجود ألف وأربعمائة مفردة فارسية في نسيج اللغة والأدب الأرمني، مما يشي بثقافة وحضارة مشتركة ذات جذور تاريخية ضاربة في القدم.
الوشائج الاقتصادية بين طهران ويريفان
إن تذليل عقبات القطاع الخاص وتسريع تنفيذ المواثيق الاقتصادية والتجارية، من أبرز محاور جدول أعمال السيد بزشكيان في زيارته لأرمينيا. وتتمتع إيران وأرمينيا، بحكم الحدود الجغرافية المشتركة وحسن الجوار ومسالك العبور المتصلة، بإمكانات هائلة لتطوير أواصر العلاقات الاقتصادية والتجارية. وتمثّل الأسواق الحدودية والمنافذ التجارية المشتركة، نماذج من نقاط الالتقاء لهذه التفاعلات المثمرة.
ووفقاً للمصادر المطلعة والأنباء المحلية، تشمل أهم صادرات إيران إلى أرمينيا: النفط والغاز والمشتقات النفطية، وسبائك الحديد، والبلاستيك ومصنوعاته، والقار، ومواد البناء (كالحجر والإسمنت والجير)، والتمور، وزعفران الشرق، والمكسرات النفيسة (الفستق واللوز والزبيب)، والملبوسات، والسجاد الفاخر، والمنتجات الكيميائية.
وفي المقابل، تشمل أبرز واردات إيران من أرمينيا: الكهرباء، وخام النحاس، والتبغ، وبعض المواد المعدنية والمعادن النفيسة.
وإلى جانب تبادل السلع، تتعاضد إيران وأرمينيا في مجالات البنى التحتية والطاقة، بما في ذلك إنشاء خطوط نقل الغاز والكهرباء ومحطات الطاقة المشتركة. وقد أفضى هذا التعاضد وتطوير ممر الشمال-الجنوب للنقل إلى تعاظم قدرات العبور، وتعزيز المنافع المتبادلة، وتيسير حركة الصادرات والواردات.
وتمثّل تشكيل لجان العمل المتخصصة، وتوقيع مذكرات تفاهم في ميداني النقل والإسكان، والمشاورات بين وزراء البلدين، من الخطوات الأخيرة التي ترنو في نهاية المطاف إلى تحقيق تجارة تناهز ثلاثة مليارات دولار، ورفع مكانة إيران وأرمينيا في المسارات الدولية، ولا سيما دور إيران كشريان حيوي لعبور البضائع.
إن بلوغ مرمى زيادة حجم التبادل التجاري بين إيران وأرمينيا إلى ثلاثة مليارات دولار، إضافةً إلى النمو الاقتصادي المشترك، سيفضي إلى توطيد العلاقات الإقليمية، وتطوير الصناعات والبنى التحتية، وتوسيع آفاق التعاون الاستراتيجي. وفي ضوء تنامي الصادرات الإيرانية، والإمكانات الصناعية والزراعية، وعناية الحكومتين بتيسير التفاهمات وتذليل عقبات التعريفات والخدمات اللوجستية، فإن آفاق تحقيق هذا المرمى تبدو مشرقةً وواقعيةً.
ولن يهيئ هذا الإنجاز طريقاً جديداً لتصدير المنتجات الإيرانية فحسب، بل سيُعلي أيضاً من شأن إيران في المعادلات الاقتصادية في القوقاز ومنطقة أوراسيا.