الوقت- منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، لم يتوقف سيل الأخبار عن المجازر والانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين، وعلى رأسهم الأطفال، ورغم أن العالم شهد عبر التاريخ حروبًا مدمرة، إلا أن ما يحدث في غزة اليوم يُعَدّ جريمة غير مسبوقة في وحشيتها، حيث تتعمد آلة الحرب الإسرائيلية استهداف الفئات الأضعف في المجتمع: الأطفال والنساء والمرضى، وفي ظل صمت دولي مطبق وتواطؤ واضح من قوى كبرى، تتكشف بين الحين والآخر شهادات تقشعر لها الأبدان، تفضح جرائم الاحتلال التي تجاوزت حدود أي قانون أو قيم إنسانية.
شهادة صادمة من قلب الجريمة
أحدث هذه الشهادات جاءت من طبيب أمريكي يهودي يُدعى مارك بيرلماتر، الذي عمل متطوعًا في غزة خلال ربيع 2024، بيرلماتر، الجراح المتخصص في العظام ونائب رئيس الكلية الدولية للجراحين في الولايات المتحدة، كشف في مؤتمر صحفي تفاصيل مرعبة عن جرائم ارتكبها جنود الاحتلال ضد أطفال فلسطينيين.
قال بيرلماتر إنه شاهد بأم عينه قيام جنود الاحتلال بدفن طفلين فلسطينيين أحياء باستخدام جرافة عسكرية، بينما كانا يصرخان ويستغيثان، وأوضح: "قام الجنود بدفع الطفلين داخل قبر جماعي وغطوهما بالتراب، شيئًا فشيئًا خفتت أصواتهما حتى صمتا تمامًا"، وأضاف إن القبر كُشف لاحقًا ليُعثر على قمصان الأطفال وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم، في مشهد يعكس أقصى درجات السادية والحقد.
ولم تتوقف شهادته عند ذلك؛ بل أكد أن قناصة الجيش الإسرائيلي يتعمدون استهداف الأطفال الفلسطينيين بالرصاص، ما أدى إلى إصابة وقتل العشرات منهم، وأوضح أنه شخصيًا عالج أطفالًا أصيبوا بجروح مروعة نتيجة إطلاق النار المباشر عليهم، واصفًا ما يحدث بأنه "جرائم حرب مكتملة الأركان".
الأطفال: الضحايا الأوائل لحرب الإبادة
شهادة بيرلماتر ليست إلا جزءًا صغيرًا من الصورة الأوسع التي توثقها تقارير الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام المستقلة، فمنذ بدء العدوان على غزة، قُتل آلاف الأطفال، بينما ما زال عشرات الآلاف يواجهون خطر الموت جوعًا أو تحت الأنقاض أو بسبب غياب الرعاية الصحية، ووفق تقارير اليونيسف، فإن غزة أصبحت "أسوأ مكان في العالم للطفل"، حيث لم يعد أي مكان آمنًا.
الأطفال في غزة اليوم لا يواجهون الموت فقط بالقصف أو القنص، بل أيضًا بالمجاعة والمرض، الحصار الإسرائيلي المشدد منع دخول الغذاء والدواء، فانتشرت أمراض سوء التغذية ونقص المناعة بين الرضع، وحُرم آلاف الأطفال من اللقاحات الأساسية، ومع تدمير المستشفيات بشكل ممنهج، باتت غزة منطقة منكوبة صحيًا، تُرك فيها الأطفال لمصير بائس.
حكايات براءة مستباحة
في غزة، تتجسد أبشع صور الإجرام الإسرائيلي في قصص الأطفال الذين كان يفترض أن يعيشوا طفولتهم ببراءة وأمان، طفل لا يتجاوز السابعة وجد نفسه تحت أنقاض منزله المدمر، لينجو بجسد مثخن بالجروح وقد فقد والديه وأخوته في قصف ليلي عشوائي، طفلة أخرى لم يتبقَّ لها سوى دميتها المحترقة بعدما استهدف الاحتلال مدرستها التي احتمت بها عائلتها، فباتت تصحو على صرخات الفقد أكثر مما تصحو على أحلام الطفولة، وهناك رضّع قضوا جوعًا أو اختناقًا داخل حضّانات بلا كهرباء بسبب الحصار المتعمد، وفي قلب هذه المآسي تبرز قصة الطفلة هند، التي كانت في سيارة مع أسرتها عندما استهدفها جنود الاحتلال بشكل مباشر، فاستشهد جميع من فيها من والديها وأشقائها أمام عينيها الصغيرة، بقيت هند وحيدة بين الجثث لساعات طويلة، تصارع الخوف والصدمة، لتصبح رمزًا لطفولة مغدورة تُركت تواجه الموت بصمت، هذه القصص ليست استثناءات، بل شواهد دامية على حرب حوّلت غزة إلى مرآة تكشف كيف يستبيح الاحتلال براءة الطفولة ويجعلها هدفًا مباشرًا لإرهابه المنظم.
انتهاك سافر للقانون الدولي
ما يجري في غزة لا يمكن تفسيره إلا كجريمة جماعية تستهدف الوجود الفلسطيني ذاته. فالقانون الدولي الإنساني، وخصوصًا اتفاقيات جنيف، يفرض حماية وخاصة للأطفال خلال النزاعات المسلحة، لكن الاحتلال الإسرائيلي انتهك هذه القواعد بشكل صارخ:
استهداف المدنيين عمدًا: القصف العشوائي والتصفيات المباشرة للأطفال تمثل جريمة حرب وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
الحصار كسلاح إبادة: منع دخول الغذاء والدواء يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح حرب، وهو محظور دوليًا.
التهجير القسري: دفع مئات آلاف العائلات للنزوح تحت القصف يُعد جريمة ضد الإنسانية.
التدمير الممنهج للبنية التحتية: تدمير المستشفيات والمدارس والملاجئ يهدف إلى تقويض أسس الحياة المدنية، ما يشكل جريمة حرب أخرى.
ورغم وضوح هذه الانتهاكات، لم يُتخذ أي إجراء حقيقي لمحاسبة قادة الاحتلال أو وقف آلة القتل، بل على العكس، واصلت بعض القوى الكبرى تزويد "إسرائيل" بالسلاح والدعم السياسي، ما يجعلها شريكة في الجريمة.
سادية غير مسبوقة: من محمد الدرة إلى أطفال غزة اليوم
ليست هذه المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال الأطفال الفلسطينيين، فمنذ مشهد استشهاد الطفل محمد الدرة عام 2000 الذي هز ضمير العالم، لم يتوقف سجل الجرائم بحق الطفولة الفلسطينية: قنص الأطفال خلال مسيرات العودة، قصف المدارس التابعة للأونروا، قتل الرضع تحت أنقاض منازلهم، لكن ما يحدث اليوم في غزة فاق كل تصور، حيث تحولت الطفولة إلى هدف رئيسي للآلة العسكرية الإسرائيلية.
دفن الأطفال أحياء كما رواه الطبيب الأمريكي يُذكّر بممارسات لا تليق إلا بعصور الإبادة الجماعية التي عرفتها البشرية، وهو مشهد يعكس، ليس فقط غياب الرحمة، بل تعمد الاحتلال إرسال رسالة واضحة: لا مستقبل لفلسطين ولا لأطفالها.
الصمت الدولي وتواطؤ القوى الكبرى
رغم هول الجرائم، يظل المجتمع الدولي عاجزًا أو متواطئًا، فمجلس الأمن الدولي فشل مرارًا في تمرير قرارات ملزمة لوقف إطلاق النار بسبب الفيتو الأمريكي، الاتحاد الأوروبي اكتفى ببيانات قلق، بينما واصلت بعض دوله تصدير الأسلحة لـ"إسرائيل"، أما المؤسسات الحقوقية الدولية، فرغم توثيقها للجرائم، فإنها تواجه عجزًا في تفعيل آليات المحاسبة.
هذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا باعتباره مشاركة غير مباشرة في الجريمة، فالتقاعس عن حماية الأطفال وتركهم يواجهون الإبادة يُعد خيانة للمواثيق الدولية التي وضعت أساسًا لحمايتهم.
غزة.. مرآة للإنسانية المنكسرة
القضية ليست فقط قضية فلسطينية، بل قضية إنسانية عالمية، فما يحدث في غزة يكشف عن انهيار منظومة القيم الدولية، ويطرح سؤالًا وجوديًا: ما قيمة القانون الدولي إذا كان يُطبق بانتقائية ويُعطل عندما يتعلق الأمر بحماية الفلسطينيين؟
الطبيب الأمريكي بيرلماتر قدّم شهادة لا يمكن إنكارها: الاحتلال يستهدف الأطفال عمدًا وبوحشية، لكن السؤال الأهم: ماذا بعد؟ هل ستتحرك المؤسسات الدولية لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم، أم ستظل دماء الأطفال تُهدر في صمت، كما حدث لعقود؟
ختام القول
لقد أصبحت غزة اليوم رمزًا لمأساة القرن الحادي والعشرين، أطفالها الذين يُدفنون أحياء أو يُقتلون برصاص القناصة يجسدون أقصى درجات المظلومية، إنها جريمة لم يشهد لها التاريخ مثيل، جريمة تستهدف ليس فقط حياة الفلسطينيين، بل معنى الإنسانية ذاته.
إن شهادة طبيب أمريكي يهودي متطوع في غزة، وما تحمله من صدقية وأبعاد قانونية، تمثل وثيقة إدانة صارخة للاحتلال، لكنها أيضًا امتحان للعالم: هل ستبقى الإنسانية عاجزة أمام أبشع جريمة ضد الأطفال في عصرنا؟ أم إن دماء غزة ستوقظ الضمير الإنساني لتقول "كفى"؟