الوقت- في عالم يُفترض أنه محكوم بالقانون الدولي والعدالة الإنسانية، تبرز "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" كاستثناء فاضح، تمارس ما تشاء من قتل ودمار واعتقال وتعذيب، دون أن تخشى مساءلة أو محاسبة. في تقرير صادم نشرته منظمة "العمل ضد العنف المسلح" (AOAV) ومقرها لندن، تبيّن أن "إسرائيل" أغلقت 88% من التحقيقات في الجرائم التي ارتكبها جيشها في غزة والضفة الغربية، منذ بداية عدوانها الواسع في أكتوبر 2023 وحتى يونيو 2025، دون توجيه أي تهم جنائية أو إصدار أحكام بحق الجناة.
إفلات ممنهج من العقاب
النتائج التي خلُص إليها التقرير لا تترك مجالًا للشك، "إسرائيل" تعتمد سياسة ممنهجة في الإفلات من العقاب، وتتجنب عمداً مساءلة قواتها حتى في أبشع الجرائم التي رصدتها وسائل الإعلام وشهود العيان،من بين 52 واقعة موثقة، شملت استشهاد 1303 فلسطينيين وإصابة 1880 آخرين، تم إغلاق معظم الملفات دون حتى فتح تحقيق جدي، أو الاكتفاء بإجراءات داخلية شكلية.
قضية واحدة فقط وصلت إلى مرحلة الحكم، حين أُدين جندي احتياط بالسجن سبعة أشهر، بعد ظهوره في تسجيل مصوّر وهو يعذب أسرى فلسطينيين في سجن "سدي تيمان"، بينما اكتُفي في خمس قضايا أخرى بإجراءات تأديبية بسيطة، مثل التوبيخ أو النقل من الموقع، في جرائم أودت بحياة عشرات المدنيين، بينهم أطفال ونساء وعمال إغاثة.
دعم غربي وتواطؤ أمريكي
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، كيف لدولة أن تتصرّف وكأنها فوق القانون الدولي؟ الجواب ببساطة يكمن في الحماية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فـ"إسرائيل"، ومنذ تأسيسها، كانت وما زالت تستند إلى دعم سياسي وعسكري واقتصادي غير محدود من واشنطن، التي تسارع دائمًا إلى الدفاع عنها في المحافل الدولية، وتستخدم حق النقض (الفيتو) لحمايتها من أي قرارات تدين جرائمها أو تطالب بمحاسبتها.
في ظل هذا الغطاء، بات بإمكان إسرائيل أن تقصف، وتُبيد، وتُهجّر، وتعتقل، وتُعذّب، ثم تُغلق الملفات دون أن تطرف لها عين. الولايات المتحدة، التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، تتحول إلى شريك مباشر في هذه الجرائم من خلال دعمها اللامحدود، وتجاهلها المتعمد للانتهاكات التي يرتكبها حليفها الاستراتيجي.
الجرائم التي لا تموت
من بين أبرز الجرائم التي لم تُحاسب "إسرائيل" عليها حتى الآن، مجزرة فبراير 2024، حين استشهد 112 فلسطينيًا أثناء اصطفافهم في طابور للحصول على الطحين وسط مدينة غزة، كما قُتل 45 آخرون في مايو إثر غارة استهدفت خيام النازحين في رفح، إضافة إلى استشهاد 31 شخصًا في يونيو أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع المساعدات.
اللافت أن السلطات الإسرائيلية نفت لاحقًا مسؤوليتها عن مجزرة رفح في يونيو، رغم وجود تسجيلات مصوّرة وشهادات ميدانية من عمال الإغاثة وشهود عيان تؤكد تورطها، لكنها لم تكن بحاجة إلى القلق؛ فالتحقيق الداخلي، الذي يُعرف باسم (FFA) – أي "تقصي الحقائق" – مجرد آلية شكلية تفتقر للشفافية والاستقلالية، ولا تهدف إلى تحقيق العدالة بل إلى تبرئة المجرمين وامتصاص الغضب الدولي.
آلية "التحقيق" الصورية
الآلية المعتمدة داخل الجيش الإسرائيلي للتحقيق في "الانتهاكات المحتملة" أشبه بمسرحية هزلية، حتى صحيفة الغارديان البريطانية وصفتها بأنها "غامضة وبطيئة" وتفتقر للنتائج، تقارير حقوقية عديدة، منها ما أصدرته منظمة "يش دين" الإسرائيلية، تؤكد أن 664 تحقيقًا جرى فتحها في قطاع غزة منذ عام 2014 حتى 2021، لم تُفضِ سوى إلى محاكمة واحدة فقط!
هذا النمط من إدارة التحقيقات لا يعني سوى شيء واحد: تغطية الجرائم، وترسيخ مناخ الإفلات من العقاب، وبعث رسالة واضحة للجنود الإسرائيليين مفادها: "افعلوا ما شئتم، فلن يُحاسبكم أحد".
ضرب للقانون والإنسانية عرض الحائط
ما يحدث في الأراضي الفلسطينية لا يمكن وصفه إلا بأنه سحق مطلق للقانون الدولي والعدالة الإنسانية، القانون الإنساني الدولي، وخاصة اتفاقيات جنيف، يُجرّم استهداف المدنيين، ويُلزم سلطات الاحتلال بحماية السكان تحت الاحتلال، لكن "إسرائيل"، بتشجيع من صمت المجتمع الدولي ودعم القوى الغربية، تتعامل مع هذه القوانين كمجرد "اقتراحات" لا قيمة لها.
بل إنها تذهب أبعد من ذلك، إذ تقوم بتسويق روايات مضادة بعد كل مجزرة، مستندة إلى جهاز دعاية متطور، يُغطي على الحقائق، ويشوّه الضحايا، ويدّعي الدفاع عن النفس حتى في أبشع الجرائم.
المنظومة الأخلاقية الغربية على المحك
إنّ سكوت الغرب، لا بل تواطؤه، إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي، يضع مصداقيته الأخلاقية على المحك، كيف يمكن لدول تتغنّى بالعدالة وحقوق الإنسان أن تبرر قتل الأطفال وقصف المستشفيات واستهداف مخيمات اللاجئين؟ كيف يمكن لهذه الدول أن تُدين جرائم في أوكرانيا أو ميانمار أو السودان، بينما تُشرعن نفس الأفعال حين ترتكبها "إسرائيل"؟
ازدواجية المعايير هذه لا تُضعف فقط الثقة في النظام الدولي، بل تُغذي أيضًا مشاعر الغضب واليأس، وتُعمّق الانقسام بين شعوب الجنوب العالمي والغرب، فالضحايا في غزة يُنظر إليهم على أنهم "أرقام" لا تستحق التعاطف، فقط لأن الجلاد يحمل جواز سفر إسرائيلي ويحظى بحماية أمريكية.
ماذا بعد؟
إذا استمرت "إسرائيل" في إغلاق ملفات الجرائم بهذه الطريقة، فإنها لا تقتل الفلسطينيين فقط، بل تقتل القانون الدولي ذاته، وإذا بقيت الدول الغربية تتعامل مع هذه الوقائع بصمت وتبرير، فإنها تفقد كل ما تبقى لها من أخلاق وقيم.
إن مسؤولية وقف هذه الجرائم لا تقع على عاتق الضحايا الفلسطينيين، بل على العالم الحر، وعلى كل صوت ما زال يؤمن بالعدالة، يجب أن تكون هناك آليات دولية مستقلة وملزمة لمحاسبة مجرمي الحرب، بعيدًا عن المجاملة السياسية والتحالفات الاستراتيجية.
ختام القول
إن ما كشفه تقرير "العمل ضد العنف المسلح" ليس مجرد أرقام، بل هو شهادة دامغة على جريمة مستمرة تُرتكب بحق شعب أعزل، على مرأى ومسمع من العالم، في زمن تخلّت فيه القوة عن الأخلاق، وارتدى فيه المجرمون عباءة الحصانة، وتحول فيه القانون إلى حبر على ورق.