الوقت - خلال الأسابيع الماضية، شهد إقليم كردستان العراق واحدةً من أكثر المواجهات الداخلية غير المسبوقة بين قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة عائلة بارزاني والقبائل المحلية، وعلى رأسها القبيلة القوية “الهركي”، لم تقتصر تداعيات هذه الأحداث على القلق الأمني الذي خيّم على المنطقة، بل دقت ناقوس الخطر بشأن تعمق الانقسامات القبلية، وتآكل سلطة الحكومة المحلية، وإمكانية تدخل القوى المركزية والدولية، يقدّم هذا التقرير تحليلاً شاملاً لجذور هذا الصراع، وأبعاده الحالية، وآثاره المحتملة، باعتباره واحداً من أخطر الأزمات الداخلية التي تواجه الإقليم.
بداية الأزمة
الصراع الأخير بين قبيلة الهركي والحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) في منطقة خبات الواقعة غرب أربيل لم يكن مجرد نزاع بسيط، بل كشف عن شروخ عميقة في بنية السلطة داخل إقليم كردستان، فهذه الأزمة، على الرغم من مظهرها القبلي، تضرب بجذورها في قضايا كبرى مثل الاحتكار الاقتصادي، والاستيلاء على الأراضي، وإضعاف استقلالية القضاء على يد عائلة بارزاني، ما قد يُفضي إلى تصاعد الاحتجاجات القبلية على نطاق واسع، وإضعاف هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني، بل ربما فتح الباب أمام تدخلات خارجية.
اندلعت شرارة الأحداث عندما حاولت قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني اعتقال إحدى الشخصيات البارزة في قبيلة الهركي، ويدعى “خورشيد الهركي”، وهو شخص سبق أن كان عضواً في الحزب الديمقراطي لكنه تورط في نزاع على الأراضي مع عشيرة “کوران”.
وفي محاولة لاعتقاله، دخلت قوات البيشمركة إلى منطقة خبات الواقعة في ضواحي أربيل، ما أثار رد فعل عنيفاً من أفراد قبيلة الهركي، وعلى الفور، قامت القبيلة بحشد مسلحيها، ونجحت في الاستيلاء على عدد من المركبات المدرعة التابعة لقوات البيشمركة، بل ودمرت بعضها، كما أقام أفراد القبيلة السواتر الترابية على الطريق الرئيسي الرابط بين أربيل ودهوك، ما أدى إلى خروج الوضع عن السيطرة وتحوله إلى صراع شامل بين الطرفين.
الجذور التاريخية للخلافات
أولاً: الصراع على الأراضي والموارد
لطالما كانت المنطقة المتنازع عليها في محيط خبات، بؤرةً للتوتر بين القبائل المحلية وعائلة بارزاني، وتفيد المصادر المحلية بوجود نزاعات مستمرة حول تسجيل الأراضي في منطقة “کردە رش”، حيث تتواجه قبيلة الهركي مع أفراد مرتبطين بالحزب الديمقراطي الكردستاني، وعلى الرغم من الطابع القانوني الذي يبدو ظاهرياً لهذه القضايا، إلا أنها في جوهرها تعكس صراعاً على النفوذ بين النخب القبلية والسلطة الحاكمة في الإقليم.
إن الفساد الاقتصادي واحتكار عائلة بارزاني لمقدرات إقليم كردستان، ولا سيما في أربيل، هو حقيقة موثّقة وشائعة، وقد أثارت جدلاً واسعاً بين أوساط الرأي العام، والنخب السياسية، والأحزاب المعارضة. لعقود طويلة، سيطرت عائلة بارزاني على الموارد النفطية، والعائدات الجمركية، واحتكرت عمليات الاستيراد، فضلاً عن استحواذها على الأملاك والشركات، ما مكّنها من تحقيق ثروات طائلة، وقد تحولت هذه الثروات إلى وسيلة أساسية تضمن استمرار هيمنة هذه العائلة على مقاليد الحكم في أربيل.
على سبيل المثال، تفيد تقارير محلية بأن ما يقارب 400 إلى 500 مليون دولار فقط من مجموع أكثر من 1.4 مليار دولار من العائدات النفطية الشهرية، تُودَع في الخزينة الرسمية للإقليم، بينما يتم التحكم بالباقي بشكل شخصي أو جماعي من قبل أفراد العائلة.
وفي هذا السياق، صرّح علي المشكور، عضو لجنة النفط والغاز في البرلمان، في مقابلة مع “روج نیوز” في يوليو 2025، قائلاً: "يتم تهريب أكثر من 200 ألف برميل من النفط شهرياً عبر ناقلات وموانئ غير رسمية"، بينما أكدت سهيلة سلطاني، عضو البرلمان، قائلةً: "الأرباح الناتجة عن هذه العمليات تُودَع في حسابات عائلة بارزاني، ولا تعود بأي فائدة على المجتمع الكردي".
على مدى سنوات، تبنّت الجماعات المدنية، وأحزاب المعارضة، وبعض القبائل موقفاً نقدياً حاداً تجاه هذا الاحتكار، وقد عبّرت الاحتجاجات الاقتصادية التي شهدها الإقليم في السنوات الأخيرة، عن الغضب الشعبي المتزايد تجاه هذه الهيمنة، وكان الشعار الشهير: "النفط والغاز ثروة للجميع، وليست حكراً لعائلة واحدة"، انعكاساً لهذه المخاوف والاحتقان الشعبي تجاه سيطرة عائلة بارزاني على موارد الإقليم.
ب) البنية القبلية في إقليم كردستان
تلعب القبائل دوراً محورياً في الحياة السياسية والاجتماعية في إقليم كردستان العراق، حيث يتمتع الإقليم بتركيبة قبلية معقدة تضمّ عدداً من القبائل الكبرى، مثل قبيلة بارزاني، الهركي، السورجي، الزيباري، الکوران، والطالباني، ولا تقتصر أدوار هذه القبائل على النفوذ الاجتماعي فحسب، بل تمتد إلى امتلاكها قوى عسكرية، موارد مالية، وحتى تمثيلاً سياسياً داخل هيكل السلطة في الإقليم.
هذا التداخل بين المصالح القبلية والحزبية يؤدي أحياناً إلى التقارب والتعاون، وأحياناً أخرى إلى التصادم والتنازع، ورغم التطورات الحديثة، ما زالت القبائل تحتفظ بهياكلها التقليدية في اتخاذ القرارات، وحل النزاعات، وإدارة شؤونها الداخلية، وحتى تجهيزها العسكري.
تُعدّ قبيلة الهركي من أبرز القبائل الكردية وأكثرها نفوذاً، حيث تتمركز في مناطق غرب أربيل وشرق دهوك، لطالما استفاد الحزب الديمقراطي الكردستاني من هذه البنية القبلية لتعزيز سلطته، إلا أن هذه العلاقة اليوم أصبحت تمثّل تحدياً كبيراً للحزب.
ج) الخلفية التاريخية للنزاعات المشابهة
الصراعات بين القوات الحزبية والقبائل الكردية ليست جديدةً على المشهد السياسي في الإقليم، فقد دخل الحزب الديمقراطي الكردستاني سابقاً في نزاعات مع قبائل مثل الکوران، الدوزي، بل وحتى مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وغالباً ما تنشأ هذه النزاعات في ظل التنافس الإقليمي على الموارد، أو نتيجة إعادة توزيع النفوذ والسلطة.
التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية
من المؤكد أن للصراع الأخير بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وقبيلة الهركي تداعيات بعيدة المدى على المشهد المستقبلي في الإقليم، تتوزع بين الجوانب الأمنية، والسياسية، والاقتصادية.
على الصعيد الأمني: تآكل سلطة الحكومة المحلية
إن اندلاع النزاع مع قبيلة قوية كالهركي، يعكس ضعفاً في قبضة السلطة المحلية على الإقليم، فإذا فشلت الحكومة في استعادة السيطرة الأمنية، فإن ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على الحكم ستتراجع بشكل حاد.
وتشير تقارير محلية وتحليلات داخل الإقليم إلى بوادر انشقاقات داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني نفسه، فضلاً عن تصاعد حالة التذمر المحلي، كما أن بعض قادة قوات البيشمركة، المنتمين بدورهم إلى قبائل محلية، أبدوا امتعاضهم من “القرارات المتسرعة والقسرية” التي اتخذتها قيادة الحزب.
وفي مناطق مثل شقلاوة، سوران، ورواندوز، تتزايد المخاوف من احتمالية اندلاع مواجهات عسكرية بين الحزب الديمقراطي والقبائل التقليدية، ما يهدّد بمزيد من زعزعة الاستقرار.
على الصعيد السياسي: الانقسامات الداخلية في الحزب الديمقراطي
تفيد بعض المصادر بوجود انشقاقات داخلية في الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولا سيما بين قادة البيشمركة، الذين أبدوا اعتراضهم على القرارات الأخيرة لقيادة الحزب، وقد يمهّد هذا التوتر الداخلي الطريق لإعادة ترتيب صفوف الحزب، وإعادة توزيع مراكز القوة داخل هيكله القيادي.
ولا يمكن أيضًا تجاهل تأثير الأجواء السياسية والاجتماعية المهيأة للاحتجاج في إقليم كردستان خلال السنوات الأخيرة، ففي الوقت الذي أدت فيه الخلافات المستمرة بين الحكومة المركزية في بغداد وأربيل حول السيطرة على موارد النفط وحصة الإقليم من الميزانية، إلى تعطيل النظام الحكومي المحلي، وعجزه عن دفع رواتب الموظفين أو تنفيذ المشاريع الخدمية والبنية التحتية، زاد الفساد المستشري في بنية الحكومة المحلية الطين بلةً.
هذا الفساد حرم الشعب من الاستفادة من عائدات النفط، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية لقطاع واسع من المجتمع، وقد سعت أحزاب المعارضة، مثل حركة التغيير (کوران)، وحركة الجيل الجديد (نوش)، وحتى بعض أطراف الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى استغلال هذا الاستياء الشعبي لصالحها.
في تسعينيات القرن الماضي، شهد الإقليم صراعاً داخلياً شديداً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، أدى إلى تقسيم فعلي للإقليم إلى “إدارتين”، واليوم، يرى بعض المحللين أن الانقسامات القبلية والاجتماعية الجديدة قد تؤدي إلى تكرار سيناريو التقسيم، بل وربما تقويض الدور التاريخي للحزب الديمقراطي الكردستاني.
الجانب الاقتصادي: تهديد شرايين الطاقة
يعتمد إقليم كردستان بشكل كبير على عائدات النفط. وأي تهديد يُوجَّه إلى مسارات تصدير النفط، ولا سيما عبر خط أنابيب أربيل–جيهان، قد يترتب عليه تداعيات اقتصادية جسيمة تُثقل كاهل الإقليم.
آفاق تصاعد واستمرار الأزمة
رغم استعادة هدوء نسبي في المنطقة، إلا أن الأجواء لا تزال متوترةً. وقد أفادت مصادر محلية بسقوط عشرات القتلى والجرحى خلال الاشتباكات الأخيرة. وقد سعت الحكومة المحلية إلى احتواء الأزمة عبر إرسال وفود وساطة، إلا أن قبيلة الهركي ما زالت تُصر على تعويض خسائرها وتقديم اعتذار رسمي.
وقد هدّد قادة القبيلة، خورشيد الهركي وجوهر الهركي، بأنه إذا استمرت الضغوط عليهم، فإنهم سيقومون بقطع خطوط نقل النفط والطرق المؤدية إلى تركيا.
وفي حال عدم التوصل إلى حل سلمي، فإن الأزمة قد تمتد إلى القبائل المتحالفة مع الهركي، مثل قبيلتي السنده والدزهيي، وبالنظر إلى الطبيعة المترابطة للبنية القبلية في الإقليم، فإن احتمالية امتداد النزاع إلى مناطق أخرى من كردستان ليست مستبعدةً.
يُذكر أن العديد من هذه القبائل قد أبدت خلال السنوات الماضية استياءها من سياسات الاستيلاء على الأراضي، والاحتكار الاقتصادي، والتمييز في التعيينات، ومصادرة الأراضي من قِبل المقربين من عائلة بارزاني. وإذا فشلت عائلة بارزاني في حل الأزمة مع الهركي بطريقة تحفظ ماء الوجه، أو لجأت إلى القمع، فإن احتمال انضمام قبائل أخرى لدعم موقف الهركي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سيصبح احتمالاً خطيراً للغاية.
حتى الآن، لم تتدخل القوات العراقية رسمياً في النزاع، لكنها في حالة تأهب واستعداد، ومن جهة أخرى، قامت تركيا بإرسال طائرات مسيّرة لمراقبة التحركات الميدانية في المنطقة، وهذه التحركات قد تُغيّر التوازنات في الإقليم، وتُمهّد الطريق لتوسيع النفوذ الأجنبي فيه.
لقد دُق ناقوس الخطر الذي يُهدد الهيمنة التقليدية والانفرادية لعائلة بارزاني، وإذا استمرت حكومة الإقليم، تحت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، في انتهاج سياسة التصعيد العسكري، والمصادرة، وإنكار المطالب الشعبية، فإن احتمالية تشكيل تحالفات قبلية وسياسية ضدها ستزداد بشكل كبير، وقد تؤدي هذه التحالفات إلى إعادة تشكيل موازين القوى في الإقليم، وزيادة نفوذ الأحزاب المعارضة، بل ربما إلى إضعاف الهيكل السياسي للإقليم بأسره.
ختاماً
يمكن القول إن أزمة الهركي ليست سوى بداية زلزال اجتماعي وسياسي أكبر يهدّد شمال إقليم كردستان، وما لم يتم التعامل مع هذه الأزمة بحنكة وحكمة، فإن تداعياتها قد تكون كارثيةً على الاستقرار السياسي والاقتصادي في الإقليم.