الوقت - في فجر الثالث عشر من يونيو، بدأ الكيان الصهيوني عدوانه على إيران، مستهدفًا عددًا من القادة العسكريين والعلماء النوويين، إلى جانب عدد كبير من المدنيين الأبرياء الذين قضوا شهداء في هذه الهجمات، إلا أن إيران، وبعد أقل من يوم واحد على بدء العدوان، ردّت بصواريخ انتقامية استهدفت الأراضي المحتلة، واستمرت المواجهة بين الطرفين لمدة 12 يومًا، انتهت بإعلان وقف إطلاق النار.
أشارت مجلة “فورين بوليسي” إلى تدخل الولايات المتحدة في هذه الحرب عبر استهداف المنشآت النووية الإيرانية، مدعيةً أن البرنامج النووي الإيراني والبنية التحتية العسكرية قد تعرضا لأضرار جسيمة خلال هذه الفترة، لكنها أضافت: “رغم ذلك، يبدو أن الجمهورية الإسلامية لم تنهَر تحت وطأة هذا العدوان، بل استمدت منه قوةً جديدة، فقد أدّى هذا الهجوم إلى إيقاظ مشاعر الوحدة الوطنية لدى الإيرانيين، الذين أدانوا العدوان واحتفلوا بردّ الحكومة عليه، وإيران، رغم حزنها على فقدان قادتها، سارعت إلى تعويضهم، ما جعل هذه الحرب عاملاً لتعزيز تماسك الشعب الإيراني ومكانة الحرس الثوري الإيراني”.
وتتابع المجلة الأمريكية في تحليلها للوضع الداخلي في إيران بعد الحرب التي فرضها الكيان الصهيوني قائلةً: “قد تسعى الحكومة الإيرانية للحفاظ على الاستقرار الداخلي عبر منح مساحة أكبر لبعض الحريات الاجتماعية، لكنها في الوقت نفسه ستتعامل بصرامة مع كل من تعتبره خائنًا، ومن الأهم، أن الإيرانيين قد يصبحون أكثر قبولًا للحكومة كما هي، في ظل شعورهم بأهمية الأمن الوطني كأولوية قصوى، وهكذا، قد يشكّل هذا الصراع بدايةً لعقد اجتماعي جديد في إيران، يضع الأمن الوطني فوق أي اعتبار آخر”.
وحسب “فورين بوليسي”، فإن الاستراتيجية الأمنية الوطنية لإيران لم تشهد تغييرات كبيرة بعد هذه الحرب، إذ يفتخر قادة الجمهورية الإسلامية بصمودهم أمام هجمات "إسرائيل" والولايات المتحدة، ويعتبرون الأضرار الكبيرة التي ألحقوها بمدن الكيان الصهيوني إنجازًا عظيمًا، ويؤمنون بأن إظهار العزم الراسخ في مواجهة العدوان هو السبيل الوحيد لردع خصومهم.
وتدّعي المجلة الأمريكية أن إيران ستعمل على إعادة بناء شبكاتها الإقليمية، المتمثلة بمحور المقاومة، لتقوية نفوذها الإقليمي، كما أنها ستقلل من اعتمادها على الدبلوماسية، مفضّلةً الاستعداد لحرب طويلة الأمد مع "إسرائيل"، وربما السعي نحو خيارات نووية محتملة.
الحرب ضد الشعب
تناولت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية في تقريرها العديد من الجولات التفاوضية النووية بين إيران والولايات المتحدة بوساطة عمان، مشيرةً إلى أنه في الأسابيع التي سبقت الهجوم الإسرائيلي على إيران، بدا وكأن طهران وواشنطن قد تقتربان من حلّ خلافاتهما بشأن البرنامج النووي الإيراني بشكل سلمي. وكان بعض المحللين يعتقدون أن التوصل إلى اتفاق نووي جديد أصبح قريبًا. ومع ذلك، ومع تقدم المفاوضات، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في التراجع عن مرونتها الأولية، متأرجحةً بين مطالب بتصفير تخصيب اليورانيوم وتفكيك كامل للبنية التحتية النووية الإيرانية.
وجاء في التقرير أن هذه الظروف، إلى جانب ضعف حزب الله في لبنان وإسقاط الرئيس السوري “بشار الأسد”، دفعت العديد من المسؤولين والمحللين إلى الاعتقاد بأن الهجوم من قبل "إسرائيل" أو الولايات المتحدة، أو كلتيهما، بات وشيكًا، سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا. ومع ذلك، ظل المسؤولون الإيرانيون على طاولة المفاوضات، على أمل منع وقوع الحرب، مع تعزيز الدعم الداخلي في الوقت نفسه.
وأضافت “فورين بوليسي” أنه في بداية الهجمات الإسرائيلية، اعتقد الكثير من الإيرانيين أن هذه المواجهة ستكون قصيرة الأمد ولن تؤثر عليهم بشكل مباشر. لكن مع تصاعد القصف واستهداف البنية التحتية وقتل المدنيين الأبرياء، أدرك الإيرانيون أن هذه الهجمات ليست مجرد مواجهة بين طرفين، بل حربٌ ضد الشعب نفسه. وازداد هذا الشعور بشكل خاص عندما دعا “ترامب” والمسؤولون الإسرائيليون سكان طهران إلى إخلاء منازلهم، مما أثار غضبًا واسعًا.
ونقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن أحد سكان العاصمة الإيرانية قوله: “لقد حان الوقت لنُظهر تضامننا مع إيران. ترامب ونتنياهو يطالباننا بأن نخلي منازلنا، وكأنهم يهتمون بصحتنا وسلامتنا. كيف يمكن لمدينة تضمّ عشرة ملايين نسمة أن تُخلى؟ أنا وزوجتي لن نفسح الطريق لهم، دعهم يقتلونا”.
انفجار النزعة الوطنية
وفي السياق ذاته، ذكرت مجلة تابعة لمركز أبحاث “مجلس العلاقات الخارجية” أن الهجمات الإسرائيلية لم تؤدِّ إلى إثارة الغضب الشعبي ضد الحكومة الإيرانية، بل على العكس، أدت إلى تفجُّر نزعة وطنية قوية بين الإيرانيين. ومع قدرة الجمهورية الإسلامية على تحمل الضربات الإسرائيلية والرد بصواريخ باليستية، لاقت هذه الردود ترحيبًا واسعًا بين الكتّاب والفنانين والمفكرين الإيرانيين، رغم أن معظمهم عادةً ما يتجنبون السياسة.
وفي تعليقاتهم على هذا الصراع، شبّه بعض المعلّقين الإيرانيين الهجمات الإسرائيلية بغزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفييتي عام 1941، وطرحوا هذه المواجهة باعتبارها “حربًا وطنيةً” خاصةً بإيران؛ معركة لا تتعلق بالسياسة وحدها، بل تمثّل نضالًا قوميًا شاملًا. حتى أن بعض الناشطين السياسيين السابقين والمعارضين التقليديين انضموا إلى هذه الحركة الوطنية.
وفي تعبير واضح عن هذه الوحدة، أصدرت مئات الشخصيات السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان بيانًا مشتركًا أدانوا فيه الهجمات الإسرائيلية، مشددين على موقفهم بالقول: “نقف متحدين ومصممين في الدفاع عن وحدة أراضينا، واستقلالنا، وقدراتنا الدفاعية، ووطننا.”
وأضاف التقرير أن هذا التضامن الشعبي جاء متوافقًا مع رسالة الحكومة الإيرانية، مما ساهم في تخفيف الضغط الداخلي الذي كانت تواجهه الجمهورية الإسلامية.
وتوقّعت مجلة “فورين بوليسي” أن تستغل الحكومة الإيرانية هذه الفترة لتسريع عملية التسلّح وتعزيز استعداداتها العسكرية. كما أشارت إلى احتمالية قيام طهران بعمليات تطهير داخلي تستهدف الحدّ من الاختراقات الاستخباراتية الإسرائيلية. ويتوقّع أيضًا أن تعمل إيران على توسيع أجهزتها الرقابية، مع الاعتماد المتزايد على المواطنين العاديين للإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة.
استراتيجية الحرب خارج الحدود الصائبة
أضافت المجلة الأمريكية: إن المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين يركزون بشكل أساسي على سؤال محوري وهو: هل تُشكّل طهران تهديدًا لهم أم لا؟ وفي هذا السياق، يؤمن قادة الحرس الثوري الإيراني بأن الاستراتيجية الدفاعية المتقدمة للبلاد – المتمثلة في مواجهة الأعداء عبر خوض حرب غير متماثلة على مقربة من حدودهم أو داخلها بدلًا من الداخل الإيراني – تُعتبر مبرَّرةً ومُجديةً.
لقد نجحت هذه المقاربة في ردع "إسرائيل" والولايات المتحدة لسنوات عن تنفيذ هجمات، مما منح طهران وقتًا ثمينًا لبناء بنية تحتية صناعية متينة، وتنمية خبرات تقنية، وتعزيز قدراتها المؤسسية، وهي عوامل تمكّنها الآن من إعادة بناء برامجها النووية وصواريخها الباليستية بسرعة حتى بعد تعرضها لقصف مدمّر.
وحسب مجلة “فورين بوليسي”، لطالما جادل قادة الحرس الثوري على مدى سنوات بأن حماية الأمة تقتضي نقل الحرب إلى خارج الحدود الوطنية. كانوا يعتقدون، على سبيل المثال، أن عدم دعم بشار الأسد في دمشق، سيؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد مباشر لطهران. وبمعنى ما، أثبتت الأحداث صحة وجهة نظرهم. فقد صممت إيران موقفها الإقليمي بشكل يُشكّل طبقات دفاعية من خلال شركائها المختلفين، استنادًا إلى قناعة بأن هذه الشبكة ستجبر الأعداء على اجتياز جبهات متعددة قبل الوصول إلى الأراضي الإيرانية. وقد أظهرت الحرب أن استراتيجيتهم قد عملت وفق المخطط المرسوم.
ومع ذلك، فإن هذا النهج لم يمنع الهجمات على الأراضي الإيرانية، بل أخّر وقوعها فقط. غير أن هذا التأخير كان بالنسبة لطهران جوهر المسألة: فقد منح الدولة الوقت اللازم للاستعداد، والتعلم من تكتيكات "إسرائيل"، وتصوير الحرب على أنها معركة وجودية وطنية. لذلك، من غير المرجح أن تغيّر إيران بشكل جوهري سلوكها بعد هذه الهجمات.
وتتابع المجلة: يمكن للجمهورية الإسلامية أن تسعى إلى إعادة تشكيل محور المقاومة من خلال إعادة بناء حزب الله كقوة أكثر نشاطًا وأصغر حجمًا، أقرب إلى شكله الأولي، واستغلال الفراغ الحالي في سوريا لتعزيز الجماعات المدعومة من قبلها، على الرغم من أن تحقيق ذلك لن يكون سهلًا بأي حال من الأحوال.
ومع ذلك، فإن طهران ترى بوادر انفراج. فقد أثارت حرب غزة موجة غضب واسعة ضد "إسرائيل" في أنحاء المنطقة، مما أدى إلى ظهور مطالب شعبية متزايدة لإعادة المقاومة ضد العدو. وفي الواقع، فإن صمود إيران، إلى جانب هجماتها الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية، قد نال إعجاب العديد من الجماهير العربية، وأعاد إحياء مشاعر التضامن مع الجمهورية الإسلامية.
أقصى درجات المقاومة مقرونةً بأقصى درجات الدبلوماسية
أشارت مجلة فورين بوليسي إلى أن طهران باتت أكثر تشككًا في جدوى الدبلوماسية مقارنةً بأي وقت مضى. فقد أحدثت الهجمات الأخيرة – التي شملت اغتيال كبار قادة الحرس الثوري ومحاولات فاشلة لاغتيال شخصيات سياسية بارزة – صدمةً عميقةً أطاحت بكل ما تبقى من مصداقية للضمانات الأمريكية، التي كانت تحتفظ ببعض الاعتبار سابقًا.