الوقت- في حين تتعالى فيه صرخات أطفال غزة تحت الأنقاض، وتئن المستشفيات من نقص الدواء، وتُبتر أطراف الجرحى بأدوات بدائية تحت حصار خانق فرضته آلة الإبادة الإسرائيلية، خرجت علينا مجموعة من الأشخاص يصفون أنفسهم بـ "أئمة"، قادمين من أوروبا، ليزوروا کیان الاحتلال الإسرائيلي في مشهد صادم، أثار غضبًا عارمًا بين المسلمين في العالم، وأعاد للأذهان صورًا مظلمة من التواطؤ مع القاتل على حساب الضحية.
هذه الزيارة التي وصفتها جهات حقوقية وشعبية بـ"الخيانة العظمى"، لم تأتِ في سياق طبيعي، بل جاءت في ذروة واحدة من أعنف الحروب التي يشنها الكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، حيث تجاوز عدد الضحايا المدنيين عشرات الآلاف، ناهيك عن المجازر الجماعية، وعمليات القصف العشوائي، والتجويع المتعمد، وتدمير البنى التحتية للمستشفيات والمدارس والمراكز الدينية.
من هم هؤلاء "الأئمة"؟
الوفد الذي قادته شخصية مثيرة للجدل، وهو الإمام الفرنسي من أصل تونسي حسن الشلغومي، لم يكن سوى مجموعة من الأشخاص المنتحلين لصفة "الإمام" دون أي تمثيل حقيقي للجاليات المسلمة في أوروبا. وقد أكدت مؤسسات دينية وشخصيات إسلامية بارزة، أن معظمهم لا يعملون في أي مساجد فعلية، وبعضهم طُردوا سابقًا من مهامهم بسبب مواقفهم المشبوهة.
الشلغومي، المعروف بمواقفه العدائية تجاه المقاومة الفلسطينية، سبق له أن دان علنًا عملية 7 أكتوبر 2023، التي نفذتها حركة حماس، من دون أن ينبس ببنت شفة عن الجرائم المستمرة بحق الفلسطينيين، وهو ما يجعله في نظر كثيرين مجرد أداة دعائية بيد إسرائيل تسعى من خلالها إلى تجميل وجه الاحتلال وتشويه صورة الإسلام.
مشهد الذل و الهوان
ظهور هؤلاء "الأئمة" وهم يجلسون بخشوع خانع بجوار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، وينصتون لنشيد "هتكفا" الإسرائيلي في قلب القدس، بينما لا تزال جثث الفلسطينيين تُنتشل من تحت الركام، ليس فقط سقطة أخلاقية، بل هو سقوط ديني وإنساني وقيمي، لا يغتفر.
كيف يمكن لرجل يُفترض به أن يمثل دين الرحمة والعدل، أن يضع يده في يد من يقود جيشًا يرتكب المجازر بحق النساء والأطفال؟ كيف لإنسان يحمل لقب "إمام" أن يغضّ الطرف عن آلاف الشهداء، ويبرر مجازر الاحتلال عبر شعارات زائفة عن "السلام والتعايش"؟
تزييف للواقع وتشويه للإسلام
الادعاء بأن هذه الزيارة جاءت تحت شعار "بناء الجسور والحوار بين الأديان"، ليس سوى محاولة رخيصة لتبييض صورة دولة الاحتلال، وإعطائها غطاءً دينيًا في وقت تسعى فيه إسرائيل إلى كسر العزلة الدولية المتزايدة حول جرائمها.
ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن هذه الزيارة مع اتساع دائرة التضامن الدولي مع فلسطين، وازدياد دعوات المقاطعة وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحافل الدولية، ومحاولات حكومة نتنياهو يائسة لإظهار صورة "مختلفة" لإسرائيل من خلال استقطاب شخصيات محسوبة على المسلمين.
والأخطر من ذلك أن هؤلاء الزوار يسيئون عمدًا لصورة الإسلام في الغرب، من خلال تمرير فكرة أن "الإسلام المعتدل" هو فقط ذلك الذي يصمت على الجرائم، ويتغنى بالسلام الزائف مع محتلي الأقصى، ويصفق لقاتل الأطفال، ويبرر التطبيع تحت ستار "التعايش".
تطبيع تحت عباءة الدين
ما حدث ليس مجرد زيارة بروتوكولية، بل هو تطبيع فج تحت عباءة الدين، ومحاولة لاختراق الصف الإسلامي عبر منابر المساجد. وحين يتم استغلال صفة "الإمام" للدخول في علاقات مع كيان قائم على الاستيطان والعنصرية والقتل، فإن الأمر لا يعود شأناً شخصياً، بل يتحول إلى خيانة جماعية للقضية الفلسطينية وللمسلمين كافة.
وصف البعض هؤلاء بأنهم "عمائم على باب التطبيع"، وهو وصف دقيق يُجسد حالة من الانهيار الأخلاقي، يُحاول بعض الأفراد تسويقها على أنها "مواقف شجاعة" أو "محاولات للسلام". ولكن لا سلام مع من ينتهك كل يوم حق الحياة، ولا تعايش مع من يبني مجده على ركام الأطفال، ولا حوار مع من يرى في الإسلام والمسلمين أعداء وجوديين.
موقف المساجد والمؤسسات الإسلامية
ردود الفعل من المؤسسات الإسلامية في أوروبا كانت حازمة، فقد سارع مسجد "بلال" في مدينة ألكمار الهولندية إلى إصدار بيان تبرأ فيه من زيارة أحد أئمته، يوسف مصيبح، إلى إسرائيل، معتبرًا أن ما قام به "تصرف فردي مرفوض بشدة"، وقرر وقفه عن الخطابة والإمامة، في خطوة وُصفت بأنها "شجاعة وفي الاتجاه الصحيح".
كما نددت "مبادرة الأئمة والخطباء والدعاة في هولندا" بالزيارة، وأكدت أنها تمثل إساءة للمسلمين في أوروبا، وتشوه صورة الإسلام المعتدل الذي يقف مع قضايا العدل والحرية.
المرصد المغربي لمناهضة التطبيع من جهته أصدر بيانًا وصف فيه الزيارة بأنها "جريمة ما فوق التطبيع"، وفضيحة من العيار الثقيل، مشيرًا إلى أن معظم من شاركوا لا يحملون أي صفة دينية رسمية، ولا يمثلون إلا أنفسهم.
خيانة تتطلب المحاسبة
إن ما جرى هو اختراق خطير للموساد وللأجهزة الإسرائيلية لصفوف الجاليات المسلمة في أوروبا، ومحاولة لضرب النسيج الإسلامي المتماسك عبر شخصيات هوائية باحثة عن الأضواء أو الدعم السياسي أو المالي.
هذه الخيانة تتطلب وقفة جادة من جميع المؤسسات الإسلامية في أوروبا والعالم الإسلامي. لا بد من فضح هؤلاء بالأسماء، وحرمانهم من الخطابة أو تمثيل أي جهة دينية، والعمل على عزلهم جماهيريًا وإعلاميًا، حتى لا يتكرر هذا السيناريو المشين مستقبلاً.
كما يتوجب على المسلمين في أوروبا أن يكونوا أكثر حذرًا فيمن يمثلهم ويتحدث باسمهم، وألا يتركوا المساجد عرضة للاختراق من شخصيات مشبوهة، تبيع ضميرها وعقيدتها مقابل دعوة لعشاء أو لقاء مع قاتل.
كلمة أخيرة: التطبيع ليس وجهة نظر
لن يكون يومًا الجلوس مع مجرمي الحرب وجهة نظر، ولا يمكن تحت أي مسمى تبرير زيارة الكيان الصهيوني، لا من إمام ولا من علماني، لا من داعية ولا من سياسي. فلسطين ليست سلعة تفاوض، ودماء أطفال غزة ليست مجالًا للعلاقات العامة، ومن يتصور أنه يمكن أن يتاجر بالدين لتجميل الاحتلال، فإنه لا يمثل إلا نفسه.
هؤلاء لا يمثلون الإسلام، بل يمثلون نقيضه. الإسلام الذي نعرفه ونؤمن به، هو دين يقف مع المظلوم ضد الظالم، مع الحق ضد الباطل، ومع الحرية ضد الاحتلال.
أما أولئك "الأئمة"، فمكانهم ليس في المحراب، بل في مزبلة التاريخ.