الوقت - في أحد أكثر المشاهد السياسية توتراً في تاريخ الكنيست الإسرائيلي، جلس النائب العربي أيمن عودة، رئيس حزب الجبهة – العربية للتغيير، أمام لجنة برلمانية تسعى إلى عزله من عضوية البرلمان، متّهَماً بالتحريض على "إسرائيل"، والتضامن مع "أعدائها"، ومشبوهاً بتصريحات وصفت بأنها تمجّد "الإرهاب"، لكن عودة، القادم من مدن الداخل الفلسطيني، لم يظهر أي تراجع، بل وقف بكل عناد السياسيين الذين يوقنون أنهم لا يمثلون أنفسهم فقط، بل يمثلون شعبًا، ورؤية، وصرخةَ حقٍّ وسط ضجيجٍ قوميٍّ متطرف.
عبارة واحدة... تكفي لإشعال الكنيست
البداية كانت في يناير الماضي، عندما قال عودة، تعليقًا على صفقة تبادل بين "إسرائيل" وحركة حماس خلال وقف إطلاق نار مؤقت في غزة: "أنا سعيد بإطلاق سراح الرهائن والأسرى".
كانت جملة مقتضبة، لكنها حملت أكثر مما تحتمل، ففي عيون خصومه، ظهر وكأنه يساوي بين المخطوفين الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم في إطار الصفقة، في المقابل، أصرّ عودة على أن موقفه إنسانيٌّ بحت، وأنّ معظم الفلسطينيين الذين شملتهم الصفقة هم قاصرون لم تُوجَّه إليهم أي تهمة، بل اعتُقلوا إداريًا دون محاكمة، في انتهاك صارخ لكل الأعراف الحقوقية.
لكن آلة الهجوم انطلقت بكل قسوة، اتّهمه نواب من اليمين بأنه يطعن الدولة في ظهرها، وبأنه يحرّض على الإرهاب ويقوّي العدو، وتحوّل الموقف إلى حملة منظمة، قادها عضو الكنيست عميحاي بوآرون عن حزب "الليكود"، الذي بدأ بجمع التواقيع لبدء إجراءات العزل رسميًا.
كلمات تُعتبر "خيانة" في زمن الاستقطاب
داخل اللجنة، واجه عودة حملة شعواء، رئيس اللجنة، أوفير كاتس، لم يخف نواياه: "أيمن عودة هو الجبهة الثامنة التي يجب تطهيرها"، قالها دون مواربة.
"في الوقت الذي يقاتل فيه جنودنا على سبع جبهات، علينا أن نواجه الثامنة – الداخل".
وذهب كاتس أبعد من ذلك، متهمًا عودة بأنه لم يقدّم شيئًا لعرب إسرائيل، وأنّه مجرد "بوق لغزة وأعداء إسرائيل"، بل وصل إلى القول: "لو كان في سوريا، لشنقوه في ساحة المدينة".
الكلمات كانت قاسية، أشبه بمحاكمة سياسية علنية، قُدِّم فيها عودة كـ"خائن داخلي"، "إرهابي بربطة عنق"، و"صوت الأعداء داخل قلب الدولة"، وفي لحظةٍ من التوتر، صاح كاتس في وجه عودة واصفًا إياه بأنه "إرهابي كبير"، فرد الأخير بغضب: "خطابك هذا تحريض مباشر على القتل!".
أيمن عودة: صامد أمام العاصفة
رغم كل الهجوم، ظلّ عودة صامدًا، متماسكًا، ثابتًا على موقفه.
قال بصوتٍ عالٍ: "لن أعتذر، لن أتراجع، فليُسجّل التاريخ: أنا فخور بمواقفي، إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية، ومحاولتكم هذه لعزلي غير قانونية وغير ديمقراطية، بل هي اضطهاد سياسي من حزب يميني فاشيّ يريد تكميم الأفواه العربية".
وحين أراد التحدث بالعربية، قاطعه نواب اليمين بصيحات استهجان، واتهموه بأنه "إرهابي"، لكنه ردّ بعزيمة: "العربية لغة رسمية في هذه البلاد، وسأتحدث بها ما دمت أمثل شعبًا يتحدثها، التاريخ سيبرئني، وسيحكم عليكم".
دفاع قانوني وسياسي
على المستوى القانوني، وقف المحامي حسن جبارين مدافعًا عن موكله، مؤكدًا أنّ كل ما قاله عودة يقع ضمن الإطار المشروع لحرية الرأي والتعبير السياسي، ولا يحتوي على أي تأييد للكفاح المسلح.
"تصريح عودة بشأن صفقة التبادل قانوني تمامًا، ولا يستدعي هذا الإجراء غير المسبوق"، قال جبارين.
وفي السياق ذاته، دافع نواب عرب عن زميلهم.
أحمد الطيبي، زميل عودة في كتلة الجبهة، وصف ما يحدث بأنه "فرية دم سياسيّة"، تُنفّذ في سياق أجواء انتخابية مسمومة.
أما وليد طه، من القائمة العربية الموحدة، فأعاد الكرة إلى مرمى اليمين:
"النواب الوحيدون المدانون رسميًا بدعم الإرهاب هم أنتم، نواب اليمين المتطرف، لا النواب العرب".
لكن الرد من الطرف الآخر جاء لاذعًا، حين قال النائب أوشر شكاليم من الليكود:
"في بلدٍ آخر، كنتم ستقفون أمام فرقة إعدام!".
خلفية من التصعيد ومعركة مستمرة
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجلسة جاءت بعد يوم واحد فقط من قرار لجنة الأخلاقيات في الكنيست بتعليق عضوية عودة لمدة أسبوعين دون راتب، وذلك على خلفية حادثة وقعت في مارس 2024، حين أنزلته الشرطة بالقوة من على منصة الكنيست بعد أن اتّهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب "مجازر" في غزة.
الجلسة القادمة، المقرر عقدها يوم الاثنين المقبل، قد تكون حاسمة، فهناك احتمال جاد بأن تصوّت اللجنة لمصلحة عزله من البرلمان — سابقة لم تعرفها السياسة الإسرائيلية من قبل ضد نائب منتخب بسبب تصريحات سياسية.
معركة أكبر من مقعد في الكنيست
القضية اليوم تجاوزت شخص عودة، لتصبح معركة وجود وصوت وهوية.
هل يحق للعرب داخل "إسرائيل" أن يُعبّروا عن آرائهم بحرية؟
هل يمكن لسياسي فلسطيني أن يرفض الرواية الرسمية للدولة دون أن يُتهم بالخيانة؟
هل ما يحدث هو دفاع عن "أمن الدولة"، أم تطهير سياسيّ وقوميّ مدفوع بالخوف من الصوت الآخر؟
عودة يرى نفسه في مواجهة "حملة فاشية"، بينما يراه خصومه "تهديدًا وجوديًا". وبين هذين الموقفين، تقف الديمقراطية الإسرائيلية على المحك، تُختبَر ليس فقط في قدرتها على استيعاب المختلف، بل في استعدادها لسماع الصوت الذي لا يشبهها.
هل سيتم عزل أيمن عودة؟ ربما، لكن الأهم: هل سيتم إسكات الصوت العربي في الكنيست؟ السؤال ما زال مفتوحًا، والإجابة قد تحدد ملامح السياسة الإسرائيلية في السنوات القادمة.