الوقت- في ظل اتساع رقعة الصراعات التي تخوضها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من عام ونصف، بدأت أصوات من داخل مؤسساتها الأمنية والعسكرية ترتفع معلنة القلق من حالة إنهاك حقيقي تعاني منها الدولة العبرية، وتتمثل أبرز مظاهر هذا الإنهاك في ما يتم تداوله من تصريحات غير رسمية تفيد بأن الجيش لم يعد قادرًا على مواصلة القتال بالوتيرة نفسها، وأن الجبهة الداخلية باتت أكثر هشاشة من أي وقت مضى، هذه المخاوف لم تعد حكرًا على مراكز التفكير أو المعارضة الداخلية، بل باتت تتسرّب من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، وسط تصاعد في العمليات القتالية على أكثر من جبهة، وتآكل واضح في وحدة القرار السياسي للاحتلال الإسرائيلي.
في قطاع غزة، أطلقت دولة الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ الـ 16 من مايو 2025 عملية عسكرية برية تحت اسم "عربات غيديون"، في محاولة لاستعادة السيطرة على مناطق واسعة من شمال القطاع، مدعية استهداف ما تسميه "بنى تحتية إرهابية" ومواقع لحركة حماس، ورغم السيطرة الميدانية على مساحات تقدّر بنحو نصف القطاع حتى التاسع من يونيو، فإنّ التكلفة البشرية الباهظة والتغطية الإعلامية السلبية لذلك الهجوم، أعادت إلى الواجهة مسألة فشل "إسرائيل" في تحقيق أهداف استراتيجية واضحة، مقابل مأزق أخلاقي وسياسي متفاقم، وقد سبق ذلك تصعيد عسكري كبير في الـ 18 من مارس 2025، حين خرقت "إسرائيل" الهدنة الإنسانية عبر قصف مكثف خلّف أكثر من 400 شهيد فلسطيني، ما أثار استنكارًا دوليًا واسعًا.
بموازاة ذلك، شهدت الضفة الغربية تصعيدًا متكررًا من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة في مناطق مثل جنين وطولكرم، حيث شنّت "إسرائيل" عمليات اجتياح بذريعة ملاحقة عناصر مقاومة، وقد قوبلت تلك العمليات بردود فعل شعبية فلسطينية غاضبة، وبتضامن ميداني من سكان الضفة رغم الحصار المتزايد، هذه الحملة المتواصلة، وإن أعطت انطباعًا بالسيطرة الأمنية، إلا أنها لم تمنع تصاعد عمليات الطعن وإطلاق النار ضد الجنود والمستوطنين، وهو ما يشير إلى فشل تكتيكات الردع الإسرائيلية مجددًا.
وفي تطور نوعي بالغ الأهمية، نفذت إيران بتاريخ الـ 13 من يونيو 2025 هجومًا مباشرًا بطائرات مسيرة وصواريخ استهدفت عمق الأراضي الإسرائيلية، هذا الهجوم الذي جاء ردًا على غارات إسرائيلية سابقة ضد مواقع داخل إيران، اعتبره مراقبون تغييرًا كبيرًا في قواعد الاشتباك، حيث كسرت طهران الحاجز النفسي والعسكري ونقلت المعركة إلى عمق "إسرائيل"، ورغم اعتراض بعض الأهداف، إلا أن ما تمكّن من اختراق الدفاعات كشف ثغرات حساسة في الجبهة الأمنية الإسرائيلية، وأثار مخاوف لدى المواطنين من اتساع نطاق الحرب إلى الداخل.
الوضع الداخلي في "إسرائيل" لا يقل توترًا عن الجبهات الخارجية، فقد اندلعت احتجاجات حاشدة منذ بداية مايو، مطالبة بوقف الحرب في غزة والضفة، وإعادة الجنود والأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، إضافة إلى انتقادات مباشرة لحكومة بنيامين نتنياهو وتحميلها مسؤولية استمرار النزيف العسكري والسياسي. وفي بعض المناطق وصلت الاحتجاجات إلى اقتحام مكاتب حزبية، ورفع شعارات تطالب بإسقاط الحكومة.
كل ذلك يحدث في ظل انقسام سياسي حاد داخل الحكومة الإسرائيلية، بين من يدعو لتوسيع العمليات، ومن يطالب بتسوية سياسية عاجلة، وعلى المستوى العسكري، عبّر ضباط سابقون عن قلقهم من تآكل قدرة الجيش على التحمل، مشيرين إلى أن طول أمد العمليات، والخسائر البشرية، وتردّي المعنويات باتت تمثل تهديدًا حقيقيًا لقدرة الكيان الإسرائيلي على الصمود.
من جهة أخرى، فإن الضغوط الإقليمية لا تقل وقعًا، حزب الله اللبناني كثف تهديداته، وتزايدت المناوشات على الحدود الشمالية، وفي الخلفية، تواصل إيران دعمها لمحور المقاومة سياسيًا وعسكريًا، وتعمل على تشكيل بيئة ردع جديدة تعتمد على المواجهة متعددة الجبهات، هذا الواقع يعيد إلى الأذهان سيناريوهات حروب الاستنزاف، لكن في هذه المرة، فإن الطرف الذي يعاني من الاستنزاف ليس المقاومة بل الجيش الإسرائيلي ذاته.
تحليل المشهد يُبرز أن "إسرائيل"، رغم تفوقها العسكري والتقني، باتت محاصَرة بين ضغوط ثلاثية: عسكرية في الجبهات، شعبية في الداخل، وسياسية على مستوى القرار، استمرار الحرب بهذا الشكل لا يخدم مصالحها بعيدة المدى، بل يفاقم حالة العزلة الدولية، ويُفقدها ما تبقى من الدعم الإقليمي المحدود، كما أن استمرار المواجهة مع إيران وحزب الله قد يفتح جبهة مواجهة غير محسوبة النتائج، وهو أمر تحذر منه تقارير استخبارية إسرائيلية مسربة، اعتبرت أن "إسرائيل قد تكون دخلت مرحلة تآكل الردع، وفقدان السيطرة الاستراتيجية".
انطلاقًا من ذلك، فإن ما يُستشف من الوقائع والتحليل هو أن دولة الإسرائيلي تواجه اليوم أكبر أزمة وجودية منذ نشأتها، ليس بفعل تهديد خارجي فحسب، بل بسبب انهيار جبهتها الداخلية وتآكل قدرتها القتالية والسياسية على إدارة الأزمات المتراكمة، قد يكون الخيار الوحيد المتاح أمامها الآن هو العودة إلى طاولة التفاوض، ولو مؤقتًا، بهدف إعادة ترتيب أوراقها، وتفادي الانزلاق نحو مواجهة شاملة قد تكون مدمّرة.
وفي الختام، فإن التجربة الحالية تُظهر أن التفوق العسكري لم يعد ضمانة للنصر، وأن كيانًا يقوم على القمع العسكري والهيمنة الأمنية، دون أساس سياسي متماسك أو دعم شعبي داخلي، سيكون عاجزًا أمام تحديات ذات طابع استراتيجي تتطلب حلولًا تتجاوز السلاح، نحو اعتراف بالحقوق، وضرورة التفاهم مع بيئة رافضة للظلم والاستيطان والتوسع.