الوقت- في وقت تتزايد فيه معاناة المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ومع استمرار الحصار والتجويع، تحوّلت مراكز توزيع المساعدات الإنسانية التي تُفترض أن تكون ملاذًا آمناً للفقراء والجائعين إلى ساحات موت ممنهج بيد الاحتلال الإسرائيلي، ففي تقرير حقوقي جديد، كشف "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" (Euro-Mediterranean Human Rights Monitor) عن جرائم وحشية ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال أسبوع واحد فقط، أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 600 فلسطيني، معظمهم مدنيون كانوا ينتظرون المساعدات الغذائية في مناطق متفرقة من غزة، ولا سيما مدينة رفح جنوب القطاع.
من هو "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"؟
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان هو منظمة غير حكومية مستقلة، تأسست في عام 2011، وتتخذ من جنيف السويسرية مقرًا رئيسيًا لها، ولديها مكاتب وممثلون في عدد من الدول، بما في ذلك الشرق الأوسط وأوروبا، تعمل المنظمة على توثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك النزاعات المسلحة، قضايا اللاجئين، الحق في الحياة، حرية التعبير، والعدالة الدولية.
تضم المنظمة مجموعة من الباحثين القانونيين والصحفيين الميدانيين، وتُعنى بجمع الأدلة، ونشر التقارير، والضغط على الهيئات الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، من أجل محاسبة المتورطين في انتهاكات جسيمة ترتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب.
أهداف المرصد ورسالتها
ترتكز رسالة الأورومتوسطية على:
- حماية المدنيين في مناطق النزاع، وخاصة في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا.
- توثيق الجرائم والانتهاكات بحق الشعوب المضطهدة.
- الضغط على المجتمع الدولي للتحرك ضد منتهكي القانون الدولي الإنساني.
- تعزيز العدالة والمساءلة عبر تقديم أدلة وشكاوى إلى المحاكم الدولية وهيئات الأمم المتحدة.
- الدفاع عن حرية التعبير والصحافة، وخاصة في مناطق الحكم الاستبدادي أو المحتل.
وقد لعبت هذه المنظمة دورًا محوريًا خلال السنوات الماضية في توثيق الجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، وكذلك الانتهاكات بحق اللاجئين في البحر المتوسط، ومعاملة المهاجرين في أوروبا، ما جعلها أحد الأصوات المؤثرة في تقارير الأمم المتحدة ووسائل الإعلام الدولية.
التقرير الأخير: توثيق الموت عند أبواب الخبز
في بيان صحفي صدر مؤخرًا، كشف المرصد الأورومتوسطي عن معطيات مروعة تتعلق بجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين المتجمعين حول مراكز توزيع المساعدات في غزة.
وحسب التقرير، فإن الجيش الإسرائيلي ارتكب، خلال أسبوع واحد فقط، جرائم أدت إلى استشهاد أكثر من 120 مدنيًا، وإصابة نحو 500 آخرين، غالبيتهم في رفح وغزة والشمال، كما وثقت فرق المنظمة الميدانية عمليات قنص مباشر لمواطنين عزّل، كانوا يصطفون للحصول على الطحين أو وجبات غذائية.
وأشار التقرير إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يكتفي بتجويع الفلسطينيين عبر الحصار الشامل، بل ينصب لهم كمائن مميتة حول مناطق توزيع المساعدات، ما يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر استهداف المدنيين أو استخدام الطعام وسيلة حرب.
قنص في الرأس والجسد
من بين أكثر الفقرات صدمة في التقرير ما وثقته فرق المراقبة من استهداف متعمّد من قبل قناصة الجيش الإسرائيلي لأشخاص كانوا يرفعون أيديهم أو يحملون أواني الطعام، في مشاهد قال عنها التقرير إنها "تشبه الإعدام الميداني".
في حادثة موثقة بالفيديو، هاجم جنود الاحتلال مركز توزيع مساعدات في حي "العلم" في رفح، حيث كان مئات المواطنين ينتظرون دورهم للحصول على المواد الغذائية، ونتج عن ذلك استشهاد 27 مدنيًا، بينهم أطفال ونساء، إضافة إلى 90 جريحًا، بعضهم في حالات حرجة بسبب الإصابات في الرأس والصدر.
الكيان الإسرائيلي ينكر.. والمجتمع الدولي يلتزم الصمت
كالعادة، نفى الكيان الإسرائيلي هذه الجرائم، مدعياً أن استهدافها جاء ضد "أفراد مشبوهين"، وهو التبرير الذي دأبت عليه سلطات الاحتلال لتبرير المجازر، من دون أن تقدم أدلة ملموسة أو تُخضع جنودها للمساءلة، وقد وصف التقرير هذه التبريرات بأنها "مغالطات ممنهجة تهدف لتضليل الرأي العام الدولي والتستر على سياسة ممنهجة للإبادة الجماعية".
وأضاف التقرير إن هذه الجرائم تحدث في ظل صمت مريب من المجتمع الدولي، وخاصة من القوى الغربية التي تدعي الدفاع عن القيم الإنسانية، بينما تُمول وتُسلّح الجيش الإسرائيلي وتمنحه الحصانة السياسية والدبلوماسية في المحافل الدولية.
ويوضح التقرير أن الاحتلال لا يستخدم فقط سياسة "تجويع الفلسطينيين" كسلاح للضغط، بل حول نقاط توزيع المساعدات إلى مصائد قتل، سواء من خلال القصف المباشر أو إطلاق النار العشوائي أو القنص المنظم، وقد دعا التقرير إلى اعتبار هذه الجرائم "إبادة جزئية ممنهجة" تستهدف فئة سكانية مدنية على أسس عرقية وسياسية، ما قد يندرج تحت الجرائم ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
دعوة عاجلة للتحرك الدولي
اختتمت المنظمة تقريرها بدعوة مجلس الأمن الدولي والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيق فوري في هذه الانتهاكات، كما طالبت وكالات الإغاثة الدولية مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) ووكالة الأونروا، بإعادة النظر في آليات توزيع المساعدات التي باتت تشكّل تهديدًا على حياة المدنيين.
وأكدت أن "الاستمرار في توزيع المساعدات وفق التنسيق مع سلطات الاحتلال، من دون ضمانات الحماية، هو مساهمة غير مباشرة في استمرار هذه المجازر".
المجاعة كسلاح
ما يجري في غزة لا يمكن فصله عن سياق الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2007، والذي وصل خلال الحرب الحالية إلى مرحلة التجويع الشامل، وقد وثقت تقارير أممية في الأشهر الماضية ظهور حالات مجاعة فعلية، ووفاة عشرات الأطفال بسبب نقص الغذاء والدواء، ومعظم هؤلاء ماتوا في المناطق التي استهدفها الاحتلال بعمليات قصف ممنهج لمنشآت المياه والكهرباء والمشافي.
وفي ظل فشل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يواصل الكيان الإسرائيلي سياساته العقابية الجماعية، في محاولة لتركيع الفلسطينيين سياسيًا عبر الإبادة البطيئة، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا لأسس القانون الدولي الإنساني.
حين يصبح الخبز هدفًا عسكريًا
تقرير "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" ليس الأول من نوعه، لكنه يسلط الضوء مجددًا على حجم المأساة في غزة، إنه تقرير يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، ويدين بكل وضوح سياسة "إسرائيل" القائمة على تجويع الفلسطينيين وقتلهم عند أبواب المساعدات.
لقد تحوّلت مراكز الإغاثة من رموز للإنسانية إلى مجازر معلنة، وسط صمت عالمي يبعث على الغضب والعار، وبينما ينتظر الفلسطينيون رغيف خبز، تحصدهم رصاصات الاحتلال، في واحدة من أبشع صور الاستعمار الحديث الذي يستخدم الغذاء كسلاح، ويحوّل المساعدات إلى شرك موت.
وما لم يتحرك المجتمع الدولي، فإن كل صمت هو تواطؤ، وكل تأجيل للمحاسبة هو دعوة لمجزرة جديدة.