الوقت- تحرير جنوب لبنان في 25 أيار/مايو 2000 شكّل علامة فارقة في تاريخ المقاومة اللبنانية، وحدثًا محوريًا غيّر مسار التوازنات في المنطقة، هذا اليوم لم يكن مجرد انسحاب لقوة احتلال، بل تحوّل إلى رمز للكرامة الوطنية والانتصار على العدو الصهيوني من دون قيد أو شرط.
ومع مرور خمسة وعشرين عامًا على ذلك الانتصار، لا تزال آثاره حاضرة في وجدان اللبنانيين، حيث أصبح حزب الله، الذي قاد هذه المرحلة، أكثر رسوخًا في الساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية، جامعًا بين الدور المقاوم والدور السياسي، وموطّدًا مكانته بعد فوزه في الانتخابات البلدية الأخيرة كدليل جديد على شعبيته.
خطاب الشيخ نعيم قاسم.. تثبيت للثوابت ورسالة إلى الداخل والخارج
في الذكرى الخامسة والعشرين لتحرير الجنوب، ألقى الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، خطابًا محوريًا جسّد فيه روح المقاومة وثبات الموقف، مؤكدًا أن خيار المقاومة لا يزال هو الخيار الأصيل والفعّال في مواجهة الاحتلال والعدوان.
شدد قاسم على أن "إسرائيل" لن تتمكن من البقاء على أرض لبنان، وأن أي تسوية يجب أن تسبقها نهاية الاحتلال ووقف الاعتداءات والإفراج عن الأسرى.
كما حذّر من المراهنة على الضغوط الأمريكية، معتبرًا أن المقاومة لن تُرهَب أو تُساوَم، الخطاب عكس رؤية شاملة تدمج بين الكرامة الوطنية، والصلابة السياسية، والانفتاح على الشراكة الداخلية، حيث أثنى قاسم على نجاح الانتخابات البلدية ودور الحاضنة الشعبية، كما عبّر عن امتنان الحزب للشعوب والدول الداعمة، وخاصة العراق وإيران، مؤكّدًا أن حزب الله جزء لا يتجزأ من معركة السيادة والبناء، وأنه سيبقى حارسًا للبنان الحر، القوي، والمستقل، مهما كانت التحديات.
التحرير..كسر للهيمنة وتكريس للكرامة
شكّل انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 نقطة تحوّل كبرى في المعادلة الإقليمية، لم يكن هذا الانسحاب نتاج مفاوضات أو اتفاقيات، بل نتيجة لضربات المقاومة وتضحيات أبنائها، هذا التحرير أعاد للبنان كرامته، وكرّس معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" كركيزة أساسية للدفاع عن السيادة الوطنية.
كانت هذه أول مرة في التاريخ المعاصر يُجبر فيها كيان الاحتلال على الانسحاب من أرض عربية من دون مكاسب أو شروط، يوم التحرير لم يُخلّص الجنوب من الاحتلال فحسب، بل بثّ روح العزة والاعتزاز في نفوس كل اللبنانيين، وقد شكّل ذلك محطة مفصلية فتحت الطريق لاحقًا أمام تثبيت دور المقاومة، ليس فقط كقوة عسكرية تدافع عن الوطن، بل كمشروع وطني يعيد للبنان موقعه في المعادلات السياسية الإقليمية والعالمية.
حزب الله.. من المقاومة إلى الشراكة الوطنية
مع مرور الزمن، تحوّل حزب الله من مجرد قوة مقاومة عسكرية إلى فاعل سياسي أساسي في الداخل اللبناني، فعبر مشاركته في الحياة السياسية، أثبت الحزب أنه قادر على الجمع بين السلاح والدولة، بين المقاومة والتنمية، وبين الرؤية الاستراتيجية والحضور الشعبي.
بعد تحرير الجنوب، لم يتراجع دور الحزب، بل ازداد حضورًا وتأثيرًا، خصوصًا بعد مواجهته لعدوان 2006 وإدارته الحكيمة للأزمات الداخلية، حزب الله اليوم ليس مجرد حزب سياسي أو فصيل مقاوم، بل هو عنصر ثابت في معادلة الاستقرار الوطني.
وتعزّزت مكانته مع توسّع شعبيته خارج بيئته المباشرة، حيث وجد الكثير من اللبنانيين فيه قوة حماية وضمانة بوجه التهديدات الإسرائيلية والتحديات الاقتصادية والسياسية، إن شعبية حزب الله المستمرة تُظهر أنه ليس فقط حركة مقاومة، بل هو مشروع وطني يحظى بثقة شريحة واسعة من اللبنانيين.
الانتخابات البلدية.. دليل جديد على الشرعية الشعبية
الفوز الأخير لحزب الله وحلفائه، وخصوصًا حركة أمل، في الانتخابات البلدية شكّل تأكيدًا جديدًا على الحاضنة الشعبية الواسعة التي يتمتع بها الحزب، رغم الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة، في الجنوب والبقاع والضاحية، أثبتت نتائج صناديق الاقتراع أن مشروع المقاومة لا يزال يحظى بدعم شعبي راسخ.
اللافت في هذه الانتخابات لم يكن فقط حجم التأييد، بل الروح الديمقراطية التي أظهرها الحزب عبر انفتاحه على الشراكة المحلية ودعمه للائحة "التنمية والوفاء"، وتأكيده على أن الانتخابات ليست مناسبة لإلغاء أحد بل لبناء توافق محلي يخدم الناس.
حتى في المناطق التي نافسته فيها لوائح مستقلة، ساهمت العملية برمتها في تعزيز شرعية الانتخابات، ما يكرّس صورة الحزب كجزء لا يتجزأ من بنية الدولة ومؤسساتها، لقد برهن حزب الله مجددًا أنه لم ينفصل يومًا عن الناس، بل كان ولا يزال في صلب النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني.
المقاومة والمستقبل.. ثبات في الموقف وتوسّع في التأثير
رغم المتغيرات الإقليمية والدولية، لا تزال المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله تحافظ على ثوابتها، وتثبت أنها مستعدة لأي تحدٍ أمني أو سياسي، فالمقاومة لم تتوقف عند تحرير الأرض، بل واصلت تطورها في مواجهة العدوان المتكرر، كما فعلت في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، والدفاع عن لبنان في المحافل الدولية، وفضح سياسات الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ومع كل تهديد، يُثبت الحزب أن المعادلة التي أسسها بدماء شهدائه لا تزال صامدة. حزب الله اليوم يُقدّم نفسه كجزء من مشروع إقليمي أكبر يدافع عن المظلومين ويواجه الاحتلال، وهو ما يجعله ليس فقط لاعبًا لبنانيًا بل إقليميًا أيضًا، وبينما يعمل على إعادة بناء المناطق المتضررة، يرسّخ مكانته كضامن للأمن ومحرّك للتنمية، في رسالة واضحة مفادها بأن المقاومة خيار دائم، وأن النصر أو الشهادة هما السبيل، بينما الاستسلام ليس مطروحًا.
المقاومة كركيزة للهُوية الوطنية وبوصلة للاستقرار الاجتماعي
لم تعد المقاومة مجرد رد فعل عسكري على الاحتلال، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية اللبنانية، وخاصة في الجنوب والمناطق الحدودية، لقد أسست المقاومة، بقيادة حزب الله، مشروعًا وطنيًا يُعيد الاعتبار للسيادة، ويُحصّن البلاد من الاختراقات الخارجية، ويمنح المواطن شعورًا بالكرامة والانتماء.
إنّ حزب الله، إلى جانب دوره العسكري، بات فاعلًا مركزيًا في التنمية المحلية والبُنى التحتية، كما ظهر جليًا في الانتخابات البلدية الأخيرة التي أكّدت عمق ارتباط الحزب بقاعدته الشعبية، عبر لائحة "التنمية والوفاء"، عكس الحزب رؤية متكاملة تجمع بين الدفاع والإنماء، وتُكرّس نموذجًا يُنافس بقوة في الميدان المدني، لا فقط العسكري.
هذا المزج بين المقاومة والعمل البلدي والاجتماعي يعزز ثقة الناس بالحزب، ويثبت أنّه لا ينظر إلى السلطة من منظور النفوذ بل من باب الخدمة، من هنا، تتجلى المقاومة كمسار طويل الأمد لبناء لبنان العادل، الحر، والمستقل، في وجه الاحتلال والتهميش على حد سواء.
ختاماً، في الذكرى الخامسة والعشرين لتحرير الجنوب، يتجدد العهد مع المقاومة، وتتجدّد الثقة بحزب الله كركيزة أساسية في المعادلة اللبنانية، وبين انتصار الأمس في الميدان، وانتصار اليوم في صناديق الاقتراع، يثبت الحزب أنه يمثّل نبض الشارع وتطلعات الناس. مستقبل لبنان، إذا ما أراد الاستقرار والكرامة، لا بد أن يمرّ عبر بوابة المقاومة الوطنية التي أثبتت صدقها في الدفاع عن الأرض، والقدرة على بناء الوطن.