الوقت- منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، بدأت دولة الاحتلال الإسرائيلي تشهد موجة غير مسبوقة من هروب العقول العاملة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة.
ووفقًا للتقارير الرسمية الصادرة عن وزارة العلوم والابتكار والتكنولوجيا في الكيان الإسرائيلي، يغادر شهريًا ما معدله 826 متخصصًا في هذا القطاع الحيوي، وهو ما يُنذر بتحولات كارثية في مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد بدرجة كبيرة على الابتكار والتقنية.
هجرة الكفاءات: أرقام تفضح عمق الأزمة
من أكتوبر 2023 إلى يوليو 2024، غادر أكثر من 8,300 متخصص في التكنولوجيا المتقدمة الأراضي المحتلة، هذا الرقم لا يمكن الاستهانة به، إذ يُمثل أكثر من 2.1% من إجمالي القوى العاملة في هذا القطاع، في شهر أكتوبر وحده، سجلت الهجرة ذروتها بمغادرة 1207 متخصصين، وهو أعلى رقم شهري على الإطلاق.
هذه الأرقام لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لحالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في الكيان الإسرائيلي، وخاصة بعد تصاعد التوترات مع الفلسطينيين وتدهور الوضع الأمني في غزة، كما لا يمكن تجاهل التأثير الكبير للأزمة السياسية الداخلية المرتبطة بمحاولات حكومة نتنياهو تمرير إصلاحات قضائية مثيرة للجدل.
الذكاء الاصطناعي في خطر: تآكل البنية التحتية للابتكار
كشفت تقارير وزارة الابتكار أن موقع الكيان الإسرائيلي المتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي بدأ بالتراجع، أحد أبرز مؤشرات هذا التراجع هو انخفاض معدل نمو رأس المال البشري في هذا المجال، وتحديدًا الباحثين والمطورين والعاملين في شركات التكنولوجيا.
نصف وظائف البحث والتطوير في شركات الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية أصبح يُدار من خارج الأراضي المحتلة، ما يُشير إلى اعتماد متزايد على التوظيف الخارجي، في وقت تعاني فيه الدولة من فراغ داخلي على مستوى الخبرات.
شركات التكنولوجيا تستعين بالخارج: حل مؤقت أم مؤشر انهيار؟
شركات عملاقة مثل Waze وGett وSync باتت تعتمد بنسبة 75% على موظفين يعيشون خارج الكيان الإسرائيلي، من أصل 430 ألف عامل في هذا القطاع، هناك 240 ألف موظف يعملون من الخارج، هؤلاء ليسوا فقط في التسويق والمبيعات، بل أيضًا في مجالات البحث والتطوير والدعم التقني، ما يعني تفريغًا تدريجيًا للساحة المحلية من الكفاءات.
قد يبدو هذا حلًا مؤقتًا لمواجهة الأزمة، لكنه يُشير إلى ضعف البنية الاقتصادية الداخلية ويزيد من هشاشة السوق الإسرائيلي أمام أي تقلبات عالمية أو محلية.
الجيش يسحب الموظفين من شركات التقنية
الضرر لا يقتصر على الهجرة فقط، فاستدعاء قوات الاحتياط الإسرائيلية لعب دورًا كبيرًا في تعميق الأزمة، خلال الربع الأخير من 2024، غاب حوالي 87 ألف موظف عن أعمالهم بسبب خدمتهم في الجيش، ما يزيد الطين بلة أن 20% من قوات الاحتياط هم موظفون سابقون في قطاع التكنولوجيا، ما يعني شللاً مضاعفًا لهذا القطاع.
هذه الغيابات لا تؤثر فقط على سير العمل، بل تُضعف الإنتاجية وتُعرض الشركات لخسائر فادحة، كما تُقلص من حجم الضرائب المحصلة للدولة، وبالتالي تتقلص قدرة الحكومة على الإنفاق الاجتماعي والخدمات.
مخاطر استراتيجية: الاقتصاد في مواجهة الانهيار البطيء
قطاع التكنولوجيا يمثل 18% من الناتج المحلي الإجمالي للكيان الإسرائيلي، ويساهم بـ53% من صادراتها، ومع تراجع الكفاءات وتوقف المشاريع وتأخر تطوير المنتجات، يواجه الكيان الإسرائيلي خطر فقدان مكانتها كقوة تقنية إقليمية.
كما أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يعد جاذبًا للاستثمارات الخارجية، وخاصة بعد تحذيرات مؤسسات التصنيف العالمية مثل "موديز" و"فيتش"، فقد خفضتا التصنيف الائتماني للكيان الإسرائيلي العام الماضي، وأكدتا أن استمرار الحرب وعدم الاستقرار السياسي يزيد من مخاطر الاستثمار.
خوف المستثمرين: رأس المال يفر مع العقول
عدم الاستقرار السياسي والتصعيد العسكري في غزة جعل السوق الإسرائيلي بيئة طاردة للاستثمار، حسب "موديز"، فإن حالة الشك في استقرار الأمن والاقتصاد الإسرائيليين غير مسبوقة، وتُشكل تهديدًا فعليًا للمالية العامة.
انخفاض التصنيف الائتماني يُنذر بارتفاع تكلفة الاقتراض وانخفاض ثقة المستثمرين، ما سيؤدي حتمًا إلى تقليص الاستثمارات الجديدة، بل خروج الرساميل الحالية.
انهيار داخلي: التضخم، البطالة، وانعدام الأمن الاجتماعي
تُشير التقديرات إلى أن استمرار هذا النزيف سيُؤدي إلى آثار كارثية على المدى القريب والمتوسط، انخفاض الاستثمار يعني تراجع المشاريع، وتراجع المشاريع يعني تسريح الموظفين، وتسريح الموظفين يعني بطالة وتضخم وانهيار في مستوى المعيشة.
كما أن نقص العمالة المؤهلة دفع بعض الشركات إلى تقليص نشاطها أو إيقافه مؤقتًا، ما يُؤثر بشكل مباشر على الخدمات والمنتجات المتاحة في السوق المحلي.
الارتباط بين الأمن والتكنولوجيا: معادلة مدمرة
ما يُعقّد المشهد أكثر هو العلاقة العكسية بين التصعيد العسكري والتقدم التكنولوجي، فكلما ازدادت وتيرة الحرب، زاد استنزاف الكفاءات من السوق، وبالتالي تراجع في الابتكار والإنتاجية، ما يُضعف قدرة "إسرائيل" على الحفاظ على ميزتها التنافسية.
ومع اعتماد الصناعات الدفاعية أيضًا على نفس الكفاءات، فإن هذا القطاع الحيوي يعاني هو الآخر من تراجع خطير، وهو ما يضع المؤسسة الأمنية والعسكرية في موقف حرج على المدى البعيد.
هل نشهد بداية نهاية "دولة التكنولوجيا"؟
الهروب الجماعي للعقول من الكيان الإسرائيلي، والانخفاض الحاد في معدلات النمو التكنولوجي، يعكسان أزمة بنيوية عميقة لا ترتبط فقط بالحرب على غزة، بل بجوهر المشروع الصهيوني ذاته الذي فشل في توفير بيئة مستقرة وآمنة للكفاءات والعقول.
إذا لم تُعالج هذه الأزمات من جذورها، فقد نجد أنفسنا أمام بداية نهاية "أمة الشركات الناشئة"، كما يحلو للبعض أن يسمي الكيان الغاصب بها، فالعقل البشري هو عماد أي اقتصاد متقدم، وإذا ما هرب هذا العقل، فلا سلاح ولا سور يُمكنه إنقاذ الكيان.