الوقت - في أعقاب هدوء نسبي خيّم على أجواء الجولات الأربع من المباحثات غير المباشرة بين طهران وواشنطن بشأن الملف النووي، وإزاء انكشاف النوايا المبيتة والمطامع المفرطة للبيت الأبيض ضد حق الشعب الإيراني المشروع في امتلاك المعرفة النووية السلمية، برزت المواقف الشامخة والراسخة والفاصلة للقائد الأعلى للثورة في إيران سماحة السيد آیة الله الخامنئي في ترسيم الخطوط الحمراء للنظام أمام الساسة الأمريكيين، لتغدو مجدداً وكعهدها دوماً سنداً لتعزيز موقف إيران التفاوضي، مبدّدةً بذلك جميع أوهام وأحلام الأعداء في نزع الأنياب النووية والصاروخية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجريدها من قوتها.
صرح السيد خامنئي خلال مراسم إحياء ذكرى الشهيد "إبراهيم رئيسي"(الرئيس الإيراني السابق) بشأن المفاوضات مع أمريكا قائلاً: “على الجانب الأمريكي المنخرط في هذه المحادثات غير المباشرة، أن يتجنب إطلاق الترهات، إن زعمهم بأنهم لن يسمحوا لإيران بالتخصيب، هو هراء محض وتجاوز للحدود، فليس ثمة من ينتظر إذناً من هذا أو ذاك، للجمهورية الإسلامية نهجها وسياستها التي تنتهجها بإصرار وعزم".
وأضاف بنبرة حازمة: “سأكشف للشعب الإيراني في مناسبة أخرى عن سر إصرارهم على مسألة التخصيب، ولماذا تلحّ الأطراف الغربية والأمريكية وغيرها بهذا العناد على انتزاع التخصيب من إيران، سأميط اللثام عن هذه الخفايا للشعب الإيراني في مناسبة قادمة إن شاء الله، ليبصروا حقيقة نوايا الطرف المقابل".
وأشار القائد الأعلى للثورة في إيران في سياق حديثه إلى التجربة الباهرة للحكومة الإيرانية الثالثة عشرة في مواجهة الأطماع الأمريكية الجامحة، مؤكداً: “أبى الشهيد رئيسي أي تفاوض مباشر مع أمريكا، ولم يسمح للعدو بالتبجح قائلاً إنني استطعت بالترهيب والترغيب والمكر جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات، لم يفسح لهم المجال لذلك، وإلحاح الأطراف على المفاوضات المباشرة يعود في شطر وافر منه إلى أنه حال دون ذلك، نعم، جرت مفاوضات غير مباشرة في عهده أيضاً، كما هي الحال الآن، لكنها لم تثمر، ونحن أيضاً لا نرجح أن تؤتي أكلها ولا ندري ما ستؤول إليه الأمور".
ردٌ صارم على ترّهات الأمريكيين
انبثقت كلمات القائد الأعلى للثورة في إيران رداً على تصريحات المسؤولين الأمريكيين والصهاينة الذين يطالبون بتفكيك كل المنشآت النووية الإيرانية، فقد دأب مسؤولو الإدارة الأمريكية في الأسابيع الأخيرة على تكرار تصريحاتهم وإجراءاتهم المتناقضة، ملوّحين بشبح العمل العسكري مع إلحاحهم على مفاوضات مباشرة مع إيران، سعوا من جهة إلى تصوير مشهد إيجابي لمفاوضاتهم مع إيران، ومن جهة أخرى، عبر تكرار المزاعم والتهديدات في إطار سياسة الضغط القصوى المتهاوية والتعبئة السياسية والإعلامية، بثّ الذعر بشأن تداعيات عدم التوصل إلى اتفاق.
فقد زعم ستيف ويتكاف، المبعوث الخاص لترامب لشؤون غرب آسيا الذي يترأس أيضاً الوفد المفاوض مع طهران، في أحدث تصريحاته: “الرئيس ترامب يسعى إلى حل دبلوماسي وقد بادر بإرسال رسالة إلى قائد إيران، بيد أن لدينا خطاً أحمر واحداً: التخصيب، لن نقبل حتى بنسبة واحد بالمئة منه، عرضنا لإيران يتسم بالاحترام وغايتنا التوصل إلى اتفاق خال من التخصيب، لأن هذا المسار يفضي إلى تصنيع سلاح نووي، ونأمل أن تتكلل المفاوضات بنتيجة مرضية".
كما أكد ماركو روبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة، خلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي أن إيران ليست بحاجة إلى التخصيب لامتلاك الطاقة النووية، مستعيراً ذات الخطاب الذي استُخدم سابقاً مع ليبيا وأفضى إلى تفكيك منشآتها النووية.
كذلك، شددت رسالة وقّع عليها جميع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين و177 نائباً من هذا الحزب في مجلس النواب، على وجوب تخلي إيران كلياً عن أي قدرة على تخصيب اليورانيوم حتى للأغراض الطاقوية.
وردّد ترامب نفسه مراراً أنه لن يسمح باستمرار التخصيب في إيران، وادعى في خطابه بقطر أن إيران تزخر بالنفط ولا تحتاج إلى الطاقة النووية.
هذه التصريحات المتعجرفة والنأي عن الأجواء الإيجابية على طاولة المفاوضات، التي يبدو أنها تأتي استجابةً لتصاعد الضغط الصهيوني، ألقت بظلال من الشك على إمكانية التوصل إلى اتفاق محتمل، كما أن التلكؤ في عقد الجولة الخامسة من المحادثات، يُعزى إلى أن طهران لا تضع ثقتها في الوعود الأمريكية كما في السالف.
إيران ليست ليبيا لتنحني أمام تهديدات الغرب
تسعى أمريكا والكيان الصهيوني حثيثاً إلى فرض اتفاق مماثل لما أبرمته مع ليبيا عام 2003 على إيران إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، غير أن هذا المسعى محكوم بالإخفاق.
في النموذج الليبي، قامت تلك الدولة بتفكيك برنامجها النووي برمته تحت وطأة الضغط الغربي وسلّمت معداتها للغربيين، لكن رغم ثقة نظام القذافي بوعود الغرب، لم يفضِ هذا الإجراء إلى رفع العقوبات وإنهاء العداوات فحسب، بل انزلقت ليبيا إلى هاوية الحرب الأهلية بتدبير غربي، وباتت الآن على شفا التفكك والانقسام.
ومع أن تجربة الغدر بليبيا تُعد اليوم عبرةً تاريخيةً عن نكث الغرب للعهود وعدم الوثوق بالمواثيق الأمريكية، فحتى لو لم توجد مثل هذه التجربة المريرة، فإن إيران تتباين تبايناً جذرياً عن ليبيا إبان حكم القذافي من نواحٍ شتى، تجعل تنفيذ سيناريو مشابه ضرباً من المستحيل.
إيران دولة ذات بنية سياسية قوامها الجمهورية والمشاركة الشعبية النشطة، هذه السمة الفريدة جعلت القرارات الاستراتيجية للبلاد، بما في ذلك في مضمار السياسة الخارجية والبرنامج النووي، تُصاغ على أساس توافق داخلي وبسند وطني راسخ، ومثل هذه البنية تحول دون رضوخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية للضغوط الخارجية، أو انكفائها فجأةً عن مواقفها المبدئية.
علاوةً على ذلك، تتبوأ إيران مكانةً مرموقةً بين أقوى الفاعلين السياسيين والعسكريين والجيوسياسيين في غرب آسيا، ونفوذها الإقليمي المتنامي جعلها ليست عرضةً للتهديد فحسب، بل أضحت قوةً محوريةً في معادلات المنطقة، ولهذا السبب، ليست إيران في موضع ضعفٍ يدفعها للتنازل عن منجزاتها الاستراتيجية لمجرد وعود غربية براقة كما فعلت ليبيا.
يضاف إلى ما سبق، أن التقنية النووية الإيرانية ذات جذور محلية وتطورت استناداً إلى عبقرية العلماء الوطنيين، وهذه الميزة جعلت اقتلاعها من الجذور أمراً بالغ الصعوبة، كما كفلت إمكانية استعادة هذه القدرة في حال أي اتفاق، وهذا أحد الفوارق الجوهرية مع النموذج الليبي، حيث كان البرنامج النووي الليبي في مهده وتشكّل بمعونة خارجية.
من زاوية أخرى، فإن البرنامج النووي الإيراني، رغم كل الحملات التشويهية، لا يشكّل خطراً داهماً على دول الجوار، لقد أكدت الجمهورية الإسلامية مراراً وتكراراً أن مقاصدها النووية سلمية بالكامل، وتندرج ضمن إطار معاهدة حظر الانتشار النووي، وتتجلى البراهين وصدق ذلك في المساعي الحثيثة للدول العربية للتوسط بين طهران وواشنطن، وتكشف هذه المبادرات أن حتى دول المنطقة لا تعد إيران مصدر تهديد، بل تتطلع إلى تخفيف حدة التوتر وصون استقرار المنطقة بحضور إيراني فاعل ومؤثر.
فضلاً عن ذلك، تشي جهود روسيا والصين للوساطة بين طهران وواشنطن بأن الجمهورية الإسلامية، من منظور بعض القوى التي تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، لا تمثّل تهديداً للمجتمع الدولي، وهذه المساعي الدبلوماسية تؤكد الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني ومكانة إيران الراسخة في المعادلات العالمية.
وبناءً على هذه المعطيات، فإن استنساخ تجربة ليبيا مع إيران ليس مجافياً للواقع فحسب، بل يتنافى مع منطق التطورات الإقليمية والحقائق الداخلية الإيرانية، لذلك، ستبوء محاولات أمريكا لإرغام إيران على وقف تخصيب اليورانيوم كلياً عبر التهديد والترهيب بالإخفاق الذريع.
لقد برهنت تجربة اتفاق ليبيا المخفق، أن الانصياع لإملاءات الغرب لا يجلب الأمن والاستقرار، بل يمهّد الطريق للانهيار والتفكك، لذا، لن تتزحزح إيران قيد أنملة تحت أي ظرف عن حقوقها المشروعة في ميدان التكنولوجيا النووية السلمية، ولا سبيل إلى اتفاق مستدام إلا عبر مفاوضات تصونها العزة والكرامة في ظل الاحترام المتبادل.