الوقت - غادر ترامب منطقة الخليج الفارسي مختتماً جولته الإقليمية، دون أن يترك حضوره أثراً يُذكر على مجريات الحرب في غزة، رغم ما تناقلته الروايات الإعلامية قبيل زيارته من أن أزمة غزة كانت على رأس أولويات المباحثات بينه وبين قادة الدول المضيفة، وقد بدت إشارات توحي بتباعد مواقفه عن نتنياهو في ما يتعلق بتطورات المشهد الإقليمي، بدءاً من وقف العمليات العسكرية ضد أنصار الله في اليمن، وصولاً إلى الحديث عن مفاوضات مباشرة مع حركة حماس للإفراج عن أسير يحمل جنسيةً مزدوجةً، وهذه الإشارات كانت توحي باحتمالية ضغط البيت الأبيض على تل أبيب لوقف الحرب في غزة.
لكن تلك الأماني قد تبددت، إذ أطلق مجلس وزراء نتنياهو مرحلةً جديدةً من العمليات البرية العنيفة على غزة المدمرة، هذه التناقضات تثير تساؤلات عميقة حول ما دار خلف الأستار بين ترامب والقادة السعوديين بشأن التطورات في غزة والمنطقة، وعن التغيرات المحتملة في نهج البيت الأبيض، وانعكاسها على مصير الحرب في غزة.
متطلبات تجاوز ترامب لاستراتيجية تل أبيب الحربية
في ظل غموض الموقف المستقبلي لترامب تجاه غزة، يمكن استعراض جملةً من العوامل التي تكشف ضرورة ابتعاد البيت الأبيض عن النهج العدائي الذي يتبناه نتنياهو.
يتصدر أولويات نتنياهو الحفاظ على مكانته السياسية ومنع انهيار حكومته، ولهذا يسعى جاهداً، رغم فشل حملته العسكرية في غزة وعجزه عن تحقيق أهدافها بعد ثمانية عشر شهراً من العمليات العقيمة، إلى دفع الولايات المتحدة نحو التورط أكثر فأكثر في أتون هذه الحرب، غير أن تجربة قرابة شهرين من المواجهات العسكرية بين الجيش الأمريكي وأنصار الله في البحر الأحمر، والتي شهدت إسقاط طائرات مسيّرة ومقاتلات، وهجمات على السفن الأمريكية، أظهرت لترامب مدى خطورة الانسياق وراء مغامرات نتنياهو، وما قد تلحقه من أضرار جسيمة بالمصالح الأمريكية.
ولا يقف طموح نتنياهو عند حدود غزة والضفة الغربية، بل يتجاوز ذلك إلى محاولات إشعال مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، وإضعاف كل القوى المقاومة المحتملة في المنطقة، كما يطمح إلى تعزيز قبضته على مناطق في لبنان وسوريا، وامتداداً إلى ممر فيلادلفيا الحدودي مع مصر، حتى لو اقتضى ذلك انتهاك اتفاقية كامب ديفيد.
بناءً على ذلك، يسعى نتنياهو إلى جرّ إدارة ترامب نحو حروب وصراعات واسعة النطاق، تهدّد القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة، وتضعف مكانة واشنطن، ما قد يقود ترامب إلى إخفاق مدوٍ في إدارة فترة ولايته الرئاسية.
مشروع التطبيع في استراتيجية ترامب الإقليمية
يبرز عامل آخر لا يقل أهميةً، ألا وهو مشروع التطبيع الذي يحتل مكانةً مركزيةً في الاستراتيجية الإقليمية لإدارة ترامب، ولا شك أن استمرار النزاع في غزة يُعطّل تحقيق حلم ترامب الكبير: صياغة خطة تاريخية لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، وتوسيع اتفاقيات أبراهام التي أُبرمت بوساطة إدارته الأولى.
لكن ليس الصراع في غزة وحده ما يُلقي بظلاله على هذا المشروع، بل إن ظهور منافس جديد في الساحة الإقليمية قد أعاد ترتيب الأوراق، فمع تزايد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، باتت الولايات المتحدة تفقد تدريجياً قدرتها على فرض شروطها وسياساتها السابقة على الدول العربية، فالصين، بمقارباتها الاقتصادية المتوازنة وشراكاتها المتنامية، نجحت في تغيير نظرة الدول العربية إلى واشنطن، ولم تعد تلك الدول تسعى لاسترضاء الولايات المتحدة بأي ثمن كما كان الحال في السابق.
إن تعاظم دور الصين في المنطقة، بفضل شراكات اقتصادية قوية ونهج سياسي متزن تجاه القوى الإقليمية المتباينة، دفع واشنطن إلى التراجع عن بعض شروطها السابقة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع الدول الخليجية، بما في ذلك شرط تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، ويأتي ذلك في وقتٍ تواجه فيه الولايات المتحدة أزمات اقتصادية داخلية، بفعل الحروب التجارية التي شنها ترامب ضد دول أخرى، ما يجعل البيت الأبيض أكثر احتياجاً للتعاون النفطي والاستثمارات العربية.
إهدار العرب للفرص
لقد كانت التحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت بإدارة ترامب خلال زيارته إلى الخليج الفارسي، فرصةً ثمينةً كان على الدول العربية أن تغتنمها لتضع الرئيس الأمريكي تحت ضغط مكثف، يفضي إلى وقف آلة الحرب والدمار في غزة، غير أن نبرة المفاوضات واتجاهاتها جاءت كما أرادها ترامب، محكومةً بإيقاع يضمن له تحقيق مكاسبه الاقتصادية دون أن يواجه أي عقبات تُذكر.
هذه الزيارة كشفت بجلاء، مرةً أخرى، عن اتساع الهوة بين الشعارات السياسية المعلنة للدول الخليجية، وبين واقع مواقفها الفعلية تجاه القضية الفلسطينية، فقد بات واضحاً أن فلسطين، وحتى مشروع “السلام العربي” القائم على حل الدولتين والذي طُرح عام 2002، لم يعد يتصدر أولويات السياسة التي تقودها السعودية تحت راية التسوية، بل إن ما يبدو من دعم ضمني لاستمرار العدوان العسكري الإسرائيلي في غزة، مع الآمال المعقودة على نزع سلاح حركة حماس، لا يتعارض مع توجهات الرياض وأبوظبي، بل قد ينسجم معها إلى حد كبير.
وفي ظل هذه المعادلة، ورغم ما يتردد من حديث عن فتور العلاقات بين ترامب ونتنياهو، فإن الواقع يخلو من أي إشارات تدل على أن الولايات المتحدة قد تمارس ضغطاً على "إسرائيل" لإيقاف عدوانها العسكري على غزة.
ولا يمكن تجاهل الخلفية السياسية والأيديولوجية التي تشكّل شخصية ترامب، فهو من أبرز المؤيدين للتيار الإنجيلي المحافظ في الولايات المتحدة، ذلك التيار الذي يحمل رؤى أيديولوجية ذات طابع “آخر زماني”، تتقاطع بشكل خطير مع النزعات العسكرية والتوسعية لليمين الصهيوني المتطرف في حكومة نتنياهو، ما يخلق وضعاً مأساوياً يهدّد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية على حد سواء.
لقد أظهرت إدارة ترامب الأولى دعماً صارخاً للاحتلال الإسرائيلي، وفي الأشهر الأخيرة كشفت عن خطة تهدف إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة، وأثناء زيارته الأخيرة إلى قطر، صرح ترامب قائلاً: “لدي أفكار بشأن غزة، أعتقد أنها ممتازة للغاية، يمكننا تحويلها إلى منطقة حرة، دعوا الولايات المتحدة تتدخل، وسنجعلها منطقةً حرةً”، وقد تناقلت وسائل الإعلام تقارير تفيد بأن واشنطن اقترحت على القادة العرب نقل نصف مليون من سكان غزة إلى ليبيا.
إن الاستراتيجية الشرق أوسطية لإدارة ترامب ترتكز في جوهرها على دمج الكيان الصهيوني في البنية السياسية والاقتصادية للمنطقة، بما يضمن له أمناً دائماً ومستقراً، ويحول دون تكرار أحداث مشابهة لما وقع في السابع من أكتوبر، ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من طي صفحة النضال التاريخي للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وإغلاق ملف مقاومته تماماً.
ومن هنا، ما دام الصمت العربي المطبق، بل الضوء الأخضر الخفي، يمنح الولايات المتحدة مساحةً واسعةً لتحقيق أجندتها في المنطقة، فإن هذه الحرب قد تثير قلق ترامب إلى حد ما، لكنها لن تدفعه إلى تقييد يد نتنياهو أو الحيلولة دون توسيع رقعة العدوان.