الوقت- في مشهد يبدو أشبه بتجسيد واقعي لسياسات "ما بعد الدولة"، يُطل علينا خبر تسليم مناطق من جنوب سوريا لما تُسمى "منطقة إسرائيلية عازلة" كمؤشر صارخ على تصدع بنية الدولة السورية، وانزلاقها في منحدر التفكك تحت غطاء من الاتفاقيات الشكلية والتبريرات المهزوزة.
ما يحدث اليوم في الجولان ليس مجرد ترتيبات أمنية عابرة، بل هو إعلان عملي لانهيار مفهوم السيادة السورية على واحدة من أهم الجبهات التاريخية في الصراع العربي–الإسرائيلي، وجزء من سيناريو إقليمي أوسع يعيد ترسيم خرائط النفوذ بأدوات غير تقليدية.
اتفاقية 1974.. من "فصل القوات" إلى "نزع السيادة"
منذ توقيع اتفاقية فصل القوات بين سوريا والكيان الصهيوني عام 1974، ساد نوع من "الهدوء المشوب بالترقب" على الجبهة الجنوبية، تمثل بوجود قوات حفظ سلام دولية تراقب المنطقة العازلة التي تفصل بين الجانبين، لكن إعلان "إسرائيل"، في ديسمبر 2024، عن انهيار هذه الاتفاقية من طرف واحد، تلاه توغل سريع لقواتها في عمق المنطقة العازلة، يكشف ليس فقط تآكلاً في الالتزام الإسرائيلي، بل خضوعاً شبه كامل من الطرف السوري.
اللافت في رد الفعل السوري، أو ما تبقى منه، هو موقف "أحمد الشرع"، أحد أركان الإدارة السورية الجديدة، والذي لم يذهب إلى حد الاعتراض على الاحتلال الإسرائيلي المتجدد، بل قدّم عرضاً للتعاون من موقع الضعف، عبر تأكيد احترام بلاده لاتفاقية 1974 والدعوة إلى إعادة قوات الأمم المتحدة إلى المنطقة، هنا تتحول السيادة إلى مفردة جوفاء، لا قيمة لها أمام ديناميكيات القوة على الأرض.
"هرولة سياسية" أم سياسة "الواقعية المفرطة"؟
في وصف ما يحدث، استخدم البعض مصطلح "الشرع يهرول نحو اتفاقية إذعان"، وهو توصيف دقيق وإن لم يكن كافياً لفهم عمق المأزق، فالهرولة هنا ليست مجرد تساهل سياسي، بل هي سياسة مدروسة تقوم على الاعتراف الضمني بسيادة العدو على أراضٍ جديدة، مقابل وعود غامضة بـ “الاستقرار" و"ضمانات أممية"، الشرع لم يفاوض من موقع قوة، ولا حتى من موقع الندية، بل ظهر كمن يسعى لتثبيت أمر واقع فرضه الاحتلال، بدلاً من مقاومته.
قد يجادل البعض بأن الظروف لا تسمح بالمواجهة، وأن انسحاب إيران وحزب الله من الجنوب أفرغ المنطقة من أي قدرة على الردع، لكن هذا المنطق ذاته يفتح الباب أمام إعادة تعريف سوريا كدولة "منقوصة السيادة"، محكومة بحسابات القوى الأجنبية، ومجردة من أدوات القرار الاستراتيجي.
"منطقة إسرائيلية عازلة". مصطلح خطير في الخطاب السياسي
من الأخطاء الجسيمة التي تمر دون مساءلة، استخدام مصطلح "منطقة إسرائيلية عازلة" في سياق الخبر والتحليل السياسي، وكأن السيادة الإسرائيلية على هذه المنطقة أمر مسلم به، هذا المصطلح، الذي قد يبدو توصيفاً فنياً محايداً، يعكس في جوهره اعترافاً لغوياً وضمنياً بشرعنة الوجود العسكري الإسرائيلي، بل تحويله إلى جزء من منظومة "الأمن الإقليمي"، استخدام هذا المصطلح من دون علامات اقتباس أو تحفظات سياسية هو مشاركة غير مباشرة في هندسة الخطاب الإسرائيلي الجديد حول الجولان وسوريا.
انهيار الرد العربي.. غياب أكثر من صمت
اللافت أيضاً هو خفوت الصوت العربي في مواجهة هذا التصعيد، بيانات خجولة من بعض الدول، ومواقف إعلامية مترددة من الجامعة العربية، ومناورات لغوية في وصف ما جرى، كلها تشير إلى غياب موقف موحد أو حتى رؤية واضحة لكيفية التعامل مع هذه السابقة الخطيرة، ففي ظل الغياب الكامل لأي استراتيجية عربية موحدة، يتحول الاحتلال إلى واقع سياسي تُطبع معه المواقف تدريجياً، دون مقاومة تُذكر أو حتى اعتراض فعلي يُحرج المحتل أمام المجتمع الدولي.
قراءة في العقل الإسرائيلي: فرض "سلام زاحف"
ما تقوم به سلطات الاحتلال اليوم هو استثمار دقيق في لحظة الانهيار السوري لإعادة هندسة الحدود الجيوسياسية من دون طلقة واحدة، فبدلاً من الحرب، هناك توغل "تدريجي"، وبدلاً من الاحتلال الرسمي، هناك "منطقة عازلة" مؤقتة، وبدلاً من التفاوض، هناك إملاء للوقائع، هذا النمط من فرض السلام الزاحف هو ذاته الذي اتبعته "إسرائيل" في جنوب لبنان أواخر التسعينيات، وفي الضفة الغربية منذ أوسلو، ويبدو أنه الآن ينتقل إلى الجولان.
حين تفقد الدولة مركز الثقل
من الناحية السياسية، يبدو واضحاً أن ما تبقى من الدولة السورية اليوم يتحرك في مساحة محددة سلفاً من قبل الفاعلين الإقليميين والدوليين، الشرع، ومن خلفه الفريق الحاكم في دمشق، ليسوا في موقع اتخاذ قرار حقيقي، بل في موقع التكيّف مع قرارات تُصنع في تل أبيب وواشنطن وموسكو، وهنا يفقد الحديث عن "الحلول السياسية" أو "التسويات" أي معنى واقعي، لأن شروط اللعبة لم تعد تُكتب على الطاولة، بل تُفرض على الأرض.
في النهاية يمكن القول إن ما يحدث في الجولان ليس مجرد نزاع حدودي، بل اختبار تاريخي لذاكرة الأمة ومفاهيمها الجوهرية: عن الاحتلال، عن السيادة، عن حدود المساومة، إذا مرت هذه اللحظة بصمت، فإن ما يليها سيكون أخطر بكثير، وقد نرى قريباً خرائط جديدة تُرسم لا في غرف المفاوضات، بل عبر نشر القوات ورفع الأعلام.