الوقت - يبدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثالث عشر من مايو جولته الإقليمية في الخليج الفارسي، مستهلًا رحلته من المملكة العربية السعودية، لينتقل بعدها إلى قطر والإمارات العربية المتحدة، هذه الزيارة تأتي في ظل حالة من الاحتقان الجيوسياسي التي تخيّم على منطقة غرب آسيا، حيث تبدو السياسات الأمريكية تجاه كثير من الملفات الإقليمية غامضةً وغير مكتملة المعالم، ومن المتوقع أن تُرسى خلال هذه الجولة ملامح العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الخليجية للسنوات الأربع القادمة، وهي علاقة قد تتجاوز أبعادها ما هو اقتصادي إلى ما هو استراتيجي وسياسي.
من المنتظر أن تتضمن أجندة الزيارة ملفات ثنائية تتعلق بالنفط، العلاقات التجارية، اتفاقيات الاستثمار، وربما صفقات تسليحية ضخمة، أما على الصعيد الإقليمي، فمن المتوقع أن تشمل المحادثات قضايا بالغة الحساسية، من بينها وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وغزة، القضية الفلسطينية، مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، البرنامج النووي الإيراني، العقوبات المحتملة على سوريا، وأمن البحر الأحمر.
طلب ترامب تريليون دولار من السعودية
لا شك أن المحور الأهم في هذه الزيارة، سواء بالنسبة لترامب أو للدول المستضيفة، يكمن في التعاون الاقتصادي والتجاري الذي يُرتقب أن يفضي إلى توقيع اتفاقيات استثمارية كبرى وشراكات في مشاريع تنموية وبنى تحتية.
هذه الجولة تمثّل أول رحلة خارجية رسمية لترامب منذ تنصيبه، ويبدو أنه يطمح إلى أن تكون فاتحةً قويةً كما كانت زيارته الأولى للسعودية خلال ولايته السابقة عام 2017، حينما عاد إلى بلاده محمّلًا بصفقات تجارية وعسكرية واستثمارية ضخمة تجاوزت قيمتها 350 مليار دولار، من بينها صفقة أسلحة بلغت 110 مليارات دولار، وفي تلك الفترة، قدمت قطر 8 مليارات دولار لتطوير قاعدة العديد العسكرية، واستثمرت ما يزيد على 200 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي.
اليوم، يبدو أن الظروف مهيأة لتكرار مشهد مشابه، حيث أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن خطط لضخّ 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الأربع القادمة، وبالتزامن مع هذه الزيارة، وجّه الملك سلمان دعوةً إلى قادة دول مجلس التعاون للمشاركة في قمة خليجية-أمريكية في الرياض.
رغم أن الرياض لم تقدم ردًا رسميًا على طلب ترامب، الذي أعلن في يناير الماضي خلال منتدى دافوس الاقتصادي عن رغبته في أن تستثمر المملكة تريليون دولار في الولايات المتحدة، إلا أن تصريحات وزير الاقتصاد السعودي أشارت إلى أن الاستثمار المعلن عنه بقيمة 600 مليار دولار يشمل مشتريات عسكرية ومدنية، مع إمكانية زيادة المبلغ إذا ظهرت فرص استثمارية جديدة، في السياق ذاته، أفادت تقارير البيت الأبيض في مارس بأن الإمارات قد تعهدت بإطار استثماري يمتد لعشر سنوات بقيمة 1.4 تريليون دولار داخل الولايات المتحدة.
شراكات استراتيجية في الذكاء الاصطناعي والطاقة
ترى مونیکا مالک، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، أن هذه الزيارة ستشهد الإعلان عن اتفاقيات طموحة تشمل قطاعات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة، والألومنيوم، مع إمكانية إلغاء الرسوم الجمركية التي كان ترامب قد فرضها بنسبة 10% على واردات الألومنيوم والحديد.
بالتزامن مع وجود ترامب في الرياض، يُعقد مؤتمر استثماري يضمّ نخبةً من عمالقة المال والتكنولوجيا في العالم، مثل لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، وأليكس كارب المدير التنفيذي لشركة بلانتير، إلى جانب رؤساء شركات مثل سيتي جروب، IBM، كوالكوم، ألفابت، فرانكلين تمبلتون، وديفيد ساكس، خبير الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية.
هذا المؤتمر يُعدّ جزءًا أساسيًا من رؤية الأمير محمد بن سلمان 2030، وخصوصًا في ظل ما يواجهه الاقتصاد السعودي من تحديات نتيجة انخفاض أسعار النفط عالميًا وتكلفة المشاريع التنموية الضخمة، ما دفع المملكة إلى البحث عن دعم خارجي لتقوية شراكاتها المالية والاستثمارية، وخاصة مع الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، أعلنت إدارة ترامب أنها بصدد إلغاء “قانون توسيع الذكاء الاصطناعي” الذي أقرّه الرئيس السابق جو بايدن، والذي فرض قيودًا صارمةً على تصدير الرقائق المتقدمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي حتى للدول الحليفة، وصرّح متحدث باسم وزارة التجارة الأمريكية أن القانون الجديد سيكون أكثر بساطةً، ما يُطلق العنان للابتكار الأمريكي ويضمن التفوق في هذا المجال الحيوي.
مواجهة التمدد الصيني في الأسواق الإقليمية
يبدو أن الإدارة الأمريكية تسعى لتسهيل صادرات التكنولوجيا بهدف تقويض النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة، فعلى سبيل المثال، شرعت شركة G42 الإماراتية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، والتي تُدار بدعم حكومي، في تعديل استراتيجياتها لتتناسب مع القوانين الأمريكية، بما في ذلك سحب استثماراتها من الشركات الصينية والتعاون مع مايكروسوفت، التي استثمرت العام الماضي 1.5 مليار دولار في الشركة الإماراتية.
مكاسب عائلة ترامب من صفقات الخليج الفارسي
تزامنًا مع هذه التحركات، كشفت وسائل الإعلام عن الأرباح الطائلة التي حققتها عائلة ترامب من خلال علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الدول الخليجية، فقد ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن “إريك ترامب” كان في دبي للترويج لشركته المختصة بالعملات الرقمية، فيما يستعد “دونالد جونيور”، الابن الأكبر للرئيس الأمريكي، لإلقاء كلمة في الدوحة حول كيفية تحقيق الأرباح من حملة “ماجا”، وفي الشهر الماضي، وقّعت منظمة ترامب أول صفقة عقارية فاخرة لها في قطر، كما كشفت عن تفاصيل برج بقيمة مليار دولار في دبي، حيث يمكن شراء شقق البرج بواسطة العملات الرقمية.
هدية سياسية مقابل الدولارات النفطية
وفي ظل هذه الهدايا السخية التي تغدقها الدول الخليجية لإشباع شراهة ترامب الاقتصادية، تتردد أنباء عن وعد قدّمه الرئيس الأمريكي لبعض الدول المستضيفة، يتمثل فيما يُعرف بـ"هدية سياسية"، ويرى مراقبون أن هذه الهدية قد تشمل تغيير اسم الخليج الفارسي إلى اسم مصطنع في الوثائق الرسمية الأمريكية، وهو أمر أثار عاصفةً من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية.
صفقات السلاح المحتملة
في قلب أجندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته المرتقبة إلى الخليج الفارسي، تتربع تجارة السلاح واتفاقياته الباهظة، حيث تتصدر قضايا التسليح قائمة الأولويات التي يراهن عليها في ابتزاز الدول الخليجية، فقد درجت سياسة ترامب على توظيف “فزاعة إيران” كأداة لاستنزاف الأموال تحت شعار “الأمن مقابل المال”، مسخّراً هذا النهج المكرور لفرض هيمنته الاقتصادية والسياسية.
في عام 2018، خلال ولايته الأولى، أطلق ترامب تصريحاً صارخاً قال فيه: “هناك دول لن تصمد أسبوعاً واحداً دون دعمنا، وعليها أن تدفع ثمن هذا الدعم”، ومنذ ذلك الحين، انتهج استراتيجية “الدفع للبقاء”، مطالباً حلفاءه في أوروبا، والشرق الأوسط، واليابان، وكوريا الجنوبية بتحمل نفقات الحماية الأمريكية.
ومع عودته إلى البيت الأبيض، يبدو أن هذه السياسة لم تشهد أدنى تغيير، وها هو ترامب يستعد لطرح صفقات تسليحية ضخمة على الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تتميز بثقلها العسكري وسعتها الجغرافية، ووفقاً لتقرير نشرته وكالة رويترز، نقلاً عن مصادر مطلعة، يعتزم ترامب اقتراح صفقة تسليحية تتجاوز قيمتها 100 مليار دولار على الرياض، في خطوة تعكس حجم رهانه على السوق الخليجي كساحة رئيسية لترويج منتجاته العسكرية.
تأتي هذه الصفقة المحتملة في أعقاب فشل إدارة الرئيس السابق جو بايدن في إبرام اتفاقية دفاعية شاملة مع السعودية، وفي الوقت ذاته، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الأسبوع الماضي عن موافقتها على صفقة بيع صواريخ AIM-120C-8 المتطورة جو-جو، إلى جانب معدات مرتبطة بها، بقيمة 3.5 مليارات دولار.
غير أن المشهد الإقليمي اليوم يشهد تغيرات جوهرية مقارنةً بالماضي، فقد نجحت المنطقة في تهدئة التوترات الدبلوماسية بين إيران وكل من السعودية والإمارات والبحرين، في حين تتجه أصابع الاتهام نحو "إسرائيل" وواشنطن باعتبارهما رأس الحربة في زعزعة استقرار المنطقة، نتيجة السياسات العدوانية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي في غزة ولبنان، واستمرار احتلاله لأراضي سوريا، بدعم أمريكي مطلق.
لذا، يبدو أن سياسة “فزاعة إيران”، التي طالما استخدمتها واشنطن لاستنزاف الأموال الخليجية، قد فقدت الكثير من بريقها وفعاليتها، ويأتي ذلك في ظل زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى السعودية قبل يوم واحد فقط من وصول ترامب، في رسالة واضحة من الرياض تؤكد رغبتها في مواصلة تحسين العلاقات مع طهران، ومع ذلك، لا تزال بعض الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، مستعدة لتقديم تنازلات اقتصادية وعسكرية، رغبةً منها في الحصول على تقنيات حديثة أو تصاريح لبناء محطات نووية.
أسعار النفط
لا شك أن قضية أسعار النفط ستشكل محوراً بارزاً في مباحثات هذه الزيارة، وخاصةً أن ترامب دأب خلال سنوات حكمه على ممارسة ضغوط مستمرة على دول منظمة “أوبك”، بقيادة السعودية، لدفعها إلى زيادة الإنتاج وخفض الأسعار لتلبية مصالح المستهلك الأمريكي.
وفي تقرير نشرته وكالة رويترز أواخر أبريل، نقلت عن مصادر مطلعة أن المسؤولين السعوديين أبلغوا حلفاءهم وخبراء الصناعة النفطية بأن الرياض لن تقدم على خفض إضافي للإنتاج لدعم سوق النفط، مؤكدةً قدرتها على تحمل انخفاض الأسعار لفترة طويلة.
جدير بالذكر أن تحالف “أوبك بلس”، بقيادة السعودية وروسيا، وافق مؤخراً على زيادة إنتاج النفط بمقدار 411 ألف برميل يومياً خلال شهر يونيو، وعلى إثر ذلك، خفّضت مؤسسة “غولدمان ساكس” توقعاتها لمتوسط سعر النفط الخام الأمريكي لهذا العام بمقدار ثلاثة دولارات، ليصل إلى 56 دولاراً للبرميل، نتيجة الزيادة السريعة في إمدادات النفط من “أوبك بلس” إلى السوق العالمي.
الملفات الإقليمية: غزة، التطبيع، وأمن البحر الأحمر
تتصدّر غزة قائمة الملفات الشائكة التي يُتوقع أن تكون محور مباحثات ترامب خلال زيارته، حيث لا تزال المواجهات المستمرة بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني تلقي بظلالها الثقيلة على المنطقة، كان ترامب قد وعد سابقاً بإنهاء هذه الأزمة، لكنه سرعان ما تنصّل من تعهداته، إذ منح "إسرائيل" الضوء الأخضر لاستئناف اعتداءاتها الوحشية على الشعب الفلسطيني الأعزل، تحت ذرائع واهية، بل إن ترامب أثار موجةً من السخط في العالم العربي عندما كشف عن خطة تهدف إلى تهجير سكان غزة والسيطرة عليها.
وفي سياقٍ متصل، يبدو أن أزمة غزة قد ألقت بظلالها على أجواء هذه الزيارة، ولا سيما في ظل تصعيد التوترات في البحر الأحمر، فقد أمر ترامب الجيش الأمريكي بشن عمليات عسكرية في هذا الممر المائي الحيوي لمواجهة ما وصفه بـ"الدعم اليمني لغزة"، ما أدى إلى اشتعال مواجهات جديدة مع صنعاء.
ولإبعاد هذه الأجواء المشحونة عن زيارته، لجأ ترامب إلى سلسلة من الإجراءات الاستباقية، فقد أعلن أولاً عن التوصل إلى اتفاق هدنة ثنائية مع اليمن، وهي هدنة لا تشمل وقف إطلاق الصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة، ثانياً، تشير التكهنات إلى احتمال أن يعلن ترامب خلال اجتماعاته مع القادة العرب اعترافه بقيام دولة فلسطينية مستقلة، وإن كان هذا الاعتراف يكتنفه الغموض، إذ لا تحدّد الخطة المقترحة حدود هذه الدولة أو معالمها.
ومن اللافت أن هذا الطرح ينسجم مع خطة “صفقة القرن” السابقة، التي سعت إلى توطين الفلسطينيين في أراضٍ بديلة داخل الأردن ومصر، مقابل استثمارات ضخمة في غزة، إلا أن هذه المبادرة لا تحمل أي أفق حقيقي لتحقيق العدالة أو الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بل تبدو كعرض دعائي يستهدف تخفيف الضغوط السياسية عن ترامب، وتبرير خطوات جديدة نحو تطبيع العلاقات بين الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، مع الكيان الصهيوني.