الوقت - في مشهد تتسارع فيه الأحداث الإقليمية وتتزاحم فيه التحولات، تطل زيارة عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، إلى الرياض كحدث استثنائي يلفت الأنظار ويثير التساؤلات، لم تكن هذه الزيارة مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل جاءت في لحظة فارقة، قبيل جولة جديدة من المفاوضات النووية غير المباشرة بين طهران وواشنطن، وقبيل يوم واحد من وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة، ما أكسبها أبعاداً دبلوماسيةً وجيوسياسيةً عميقةً، ورفع من أهميتها في ميزان السياسة الإقليمية والدولية.
أبعاد اللقاءات ومحاور النقاش
خلال زيارته، التقى عراقجي بفيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، حيث جرت محادثات بينهما تناولت محاور رئيسية، وفقاً لبيان وزارة الخارجية الإيرانية، وهي تحسين العلاقات الثنائية، الأوضاع الأمنية في المنطقة، والمفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا.
1. تحسين العلاقات الثنائية
منذ أن أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بموجب اتفاق بكين في عام 2023، باتت مساعي توطيد الروابط بين البلدين، وخاصةً في المجال الاقتصادي، تتصدر أجندة اللقاءات الرسمية، وفي هذه الزيارة، طُرحت رؤية مشتركة لتعزيز التعاون على مختلف الأصعدة، حيث اقترح عراقجي تفعيل اللجان المشتركة الاقتصادية والثقافية، وأكد الطرفان ضرورة استمرار التنسيق في المجالات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية.
وفي المقابل، رحب فيصل بن فرحان بالتقدم المحرز في العلاقات الثنائية، مشدداً في بيان رسمي على أن الحوار المستدام والتفاعل الإقليمي، هما السبيل الوحيد لحل أزمات الشرق الأوسط المزمنة.
ومن أبرز المحطات التي عكست إرادة الطرفين في الارتقاء بالعلاقات، كانت زيارة خالد بن سلمان، وزير الدفاع السعودي، إلى طهران في مارس 2025، حيث سلّم رسالةً من الملك سلمان إلى قائد الثورة في إيران، هذه الخطوة جاءت كإشارة واضحة إلى رغبة الرياض في فتح فصل جديد من العلاقات التاريخية بين البلدين، وهو فصل يتوقع أن يشهد تعزيز التعاون السياسي والدبلوماسي، فضلاً عن إطلاق مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة والأمن البحري، وزيادة التنسيق الاقتصادي ضمن إطار منظمة أوبك ومنظمة التعاون الإسلامي.
2. الأوضاع الأمنية الإقليمية: الخليج الفارسي والبحر الأحمر
في خضم أزمات المنطقة وتحدياتها، حظيت الأوضاع الأمنية في الخليج الفارسي والبحر الأحمر، وخاصةً مع استمرار النزاع في اليمن، باهتمام كبير خلال اللقاءات بين عراقجي والمسؤولين السعوديين، إيران والسعودية، رغم ما يفصل بينهما من اختلافات عميقة في بعض الملفات الإقليمية، يجتمعان في كونهما قوتين محوريتين تحملان على عاتقهما مسؤولية حفظ الأمن في غرب آسيا، ولا سيما في الممرات البحرية الاستراتيجية التي تعدّ شرياناً حيوياً للاقتصاد العالمي.
إن التعاون بين هاتين القوتين الإقليميتين بات ضرورةً ملحةً، ليس فقط لضمان استقرار المنطقة، بل أيضاً لمنع تدخل القوى الخارجية التي لا هدف لها سوى زرع الفتن واستغلال النزاعات، كما أن القضية الفلسطينية، وما يرتكبه الاحتلال الصهيوني من جرائم بدعم أمريكي، تمثّل أولويةً قصوى في أجندة الدول الإسلامية، وفي مقدمها إيران والسعودية، ولا شك أن توحيد الصف الإسلامي يمكن أن يكون سداً منيعاً أمام المخططات الأمريكية والصهيونية، الرامية إلى تقويض الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وقد أثمر التعاون بين طهران والرياض في فترة وجيزة نتائج ملموسة، حيث ساهم في إنهاء الأزمة اليمنية، وأعاد الأمن إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر، ما عزّز حركة الملاحة البحرية وصادرات النفط السعودية، وفتح الباب أمام مشاريع استثمارية طموحة على سواحل البحر الأحمر، حتى في ظل تصاعد الأزمة في غزة، أظهرت الرياض حنكةً سياسيةً بعدم الانجرار إلى تحالفات عسكرية عدوانية بقيادة واشنطن، ما جنبها تداعيات وخيمة على مصالحها الاستراتيجية.
3. المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا
في سياق اللقاءات بين عراقجي والمسؤولين السعوديين، كان التزامن بين هذه الزيارة وجولة المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن في مسقط، بالإضافة إلى زيارة ترامب المرتقبة إلى الرياض، محوراً رئيسياً لاهتمام وسائل الإعلام والتحليلات السياسية.
إن توقيت الزيارة قبل انطلاق المفاوضات في مسقط يعكس حرص إيران على التنسيق مع دول المنطقة لضمان دعم سياسي إقليمي يعزز موقفها في هذه المحادثات، وقد أكد عراقجي، خلال مؤتمر صحفي عُقد في جدة، أن السعودية تضطلع بدور مهم في ترسيخ أي اتفاق محتمل، مشدداً على أن التنسيق مع الرياض يمثّل أولويةً بالنسبة لطهران. كما أضاف إن أي اتفاق يتجاهل مصالح شعوب المنطقة، لن يُكتب له البقاء.
ورغم أن الرياض لا تشارك مباشرةً في المفاوضات النووية، فإنها، كحليف إقليمي للولايات المتحدة، يمكن أن تسهم في تسهيل هذه المحادثات، تماماً كما أبدت رغبةً في لعب دور الوساطة في أزمات أخرى، مثل الحرب في أوكرانيا.
رسالة التوازن في السياسة الخارجية السعودية
الرسالة الأبرز التي تحملها استضافة الرياض لعراقجي قبيل زيارة ترامب إلى المنطقة، هي تكريس مبدأ التوازن في السياسة الخارجية السعودية، تريد الرياض أن تؤكد أنها قادرة على الحفاظ على تحالفها مع الغرب، وفي الوقت ذاته تطوير علاقاتها مع طهران.
إن الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين الإيرانيين والسعوديين في الأشهر الأخيرة، تشير إلى أن نموذجاً جديداً من التعاون الإقليمي بدأ يتشكل، وهو نموذج ينأى عن تدخل القوى الخارجية، ويؤسس لعلاقات أكثر استقلاليةً وديناميكيةً.
السعودية، التي باتت تدرك أهمية تنويع تحالفاتها الإقليمية، تسعى إلى تقليل اعتمادها على الدعم الأمريكي وحده، وإيران، بما لها من تأثير ودور محوري، تمثّل ركناً أساسياً في هذا التحول الاستراتيجي.